ينقل ياقوت الحموي في كتابه "معجم الأدباء" عن أبي عبدالله الخالع هذه الرواية: "حدثني أبو الحسين الناشئ قال: كنت بالكوفة في سنة خمسٍ وعشرين وثلاث مئةٍ وأنا أملي شعري في المسجد الجامع بها والناس يكتبونه عني، وكان المتنبي إذ ذاك يحضر معهم، وهو بعد لم يُعرف ولم يلقّب بالمتنبي، فأمليت القصيدة التي أولها:
بآل محمد عُرف الصواب .. وفي أبياتهم نزل الكتاب
وقلت فيها:
كأن سنان ذابله ضمير .. فليس عن القلوب له ذهاب
وصارمه كبيعته بخمٍ .. مقاصدها من الخلق الرقاب.
فلمحته (أي المتنبي) يكتب هذين البيتين، ومنها (يقصد منهما) أخذ ما أنشدتموني الآن من قوله:
كأن الهام في الهيجا عيون .. وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنّة من همومٍ .. فما يخطرن إلا في فؤاد"
***
في هذه الرواية كان الناشئ، وهو شاعر، ويوصف أيضاً بأن له دراية بعلم الكلام، يستمع من رواةٍ إلى قصائد كانت تقرأ عليه، وكانت القصائد لأبي الطيب. من الواضح أن الرواة يريدون التأكّد من دقّة ما يروون ما دام الرجل على (معرفة) بالمتنبي، وهو ممن مروا بسيف الدولة الحمداني، فسيكون مفيداً لهم أيضاً بمعرفة ظروف القصائد ومناسباتها، وهذا اهتمام يتداخل فيه العملان التأريخي الأدبي والنقدي.
يتوقف الناشئ عند بيتين مما ينشده الرواة من شعر المتنبي فيتذكر مناسبة سابقة كان هو يقرأ فيها الشعر في مسجد الكوفة، وكان الناس مشدودين إلى ما يقرأ من شعر في مديح آل البيت، ويتذكر تحديداً بيتين كان قد قالهما، وكان شابٌّ صغير في المجلس مهتّماً بالبيتين فكان يكتبهما على ورق ليحفظهما. كان ذلك الشاب هو المتنبي (303هـ - 354هـ)، كما يقول الناشئ، ولم يكن قد عُرف شاعراً ولم يتلقب بالمتنبي بعد.
سيكون من الصعب الوثوق بدقّة مثل هذه الرواية التي يكون شاهدها الوحيد هو الخصم. كيف ميّز الشاعر شابا غير معروف ما بين الحضور؟ بل كيف ميّز أنه دوّن في الورقة البيتين دون سواهما؟
لكنّ الشكّ بمدى دقة الرواية لا يكفي لدحض صحة أن يكون المتنبي قد تأثّر ببيتي الشاعر الناشئ، وقد أفاد منهما. قصيدة الناشئ حظيت بشهرةٍ ما بين موالي آل بيت الرسول، وكان المتنبي الكوفيّ قريباً من هذا المحيط، ومن المتوقع، إن لم يكن قد حضر ذلك المجلس، وهو شاب صغير، فقد يمكن أن يكون قد استمع أو قرأ القصيدة في مناسبة أخرى، والمتنبي شاعر ومثقف واسع الاطلاع والمعرفة بالشعر واللغة والفلسفة كما يفصح عن ذلك تراثه الشعري في الأقل وآراؤه المتفرقة في الشعر والجدل بشأنه.
الناشئ، وهو يتحدث لأبي عبدالله الخالع، ومن كان معه، كان دقيقاً في تعبيره حين أشار إلى أن المتنبي (أخذ) بيتيه في مديح عليّ بن إبراهيم التنوخي من بيتين كان هو (الناشئ) قد قالهما ضمن قصيدة في مديح آل البيت. إن تعبير (الأخذ) هو الأقرب إلى وصف الحال من معانى (السرقة) أو (السطو) أو (الانتحال)، وهذا ما كنّا قد تحدثنا عنه في مناسبة سابقة، و(الأخذ) كمفهوم هو الأقرب أخلاقياً وفنياً من الكثير من حالات التفاعل ما بين نصوص الشعر كلما كان التفاعل فناً وليس سرقة أو انتحالاً، فيما طويت جميع التوصيفات السالفة ضمن باب (السرقات) الشعرية، إنه باب ظل دائماً مفتوحاً على مصراعيه ضمن اهتمامات النقد العربي القديم.
وسواء أكان المتنبي حاضراً في جامع الكوفة أثناء قراءة الناشئ لشعره أم لم يكن، فإن بيتي المتنبي يعبّران مرةً عن إعجاب بـ (البناء اللغوي) و (الايقاعي) لبيتي الناشئ، وأخرى عن تطوير خلاق قام به المتنبي للمعاني الشعرية لهما.
واقعاً يبدو المعنى الشعري، وحتى اللغوي النثري، لبيت الناشئ الثاني مربكاً:
وصارمه كبيعته بخمٍ .. مقاصدها من الخلق الرقاب
***
إنه بيت محكوم بالإيقاع الوزني أكثر مما هو مكترث بالمعنى وبترتيب فكرته؛ البيعة دَين في الأعناق، وهي صلة إيجابية، بينما صلة السيوف بالأعناق لها مؤدّى آخر تصعب مقابلته بمؤدّى البيعة. لا تمكن مقارنة هذا البيت بما فعل المتنبي ببيته الثاني؛ الأسنة في بيت المتنبي يجري تشبيهها بالهموم، هنا تطابق بالصفة وتباعد كبير بالجنس ما بين المشبّه والمشبه به، لكن أي تناسق وأي ابتكار هذا الذي جاء به بيت أبي الطيب:
وقد صغت الأسنّة من همومٍ .. فما يخطرن إلا في فؤاد
حين يمرّ أبو الفتح ابن جني بهذا البيت وبشرحه يختم بالقول إنه: "من أحسن الكلام، وفي غاية الحسن".
لكن الشرّاح لا يجدون من مهارة إلا في البحث عن (أصول)، المعنى الشعري الجديد حين يكون مدهشاً لابد من أصل له. يزهد معظم الشارحين بالنقد فيما ينشغل الواحد منهم، جاداً أو هازلاً، بالتحري عن (أصل) البيت الذي يشرحه. عادةً فإنّ ما يجمع الشراح هو اعتناؤهم بالجانب اللغوي للبيت موضوع الشرح، نحواً وقاموساً ثم معنىً، قبل أن يتركز جهد أساس منهم في إقامة صلة ما بين البيت وما سبقه من شعر وفي الغالب تكون هذه الصلات واهية وركيكة، حتى لتبدو مهمة الشارح أخلاقية أكثر مما هي نقدية. يريد الشارح بهذا أن يكون حارس حقوق الشعراء الموتى بمواجهة (إغارات) الأحياء على نفائسهم وأسلابهم، فيبالغ بمهمته، ويتجاوز على حق الشاعر التالي. دائماً ثمة قدسية للماضي وللموتى.
***
هكذا مرّ بيتا المتنبي بدورة كبيرة من الإحالات التي جرى بموجبها رد (أصلهما) إلى نصوص أخرى لشعراء آخرين.
يشير الواحدي، وهو من أبرز شرّاح المتنبي، بشكل صريح إلى أن بيت المتنبي الثاني منقول من قول أبي تمّام:
كأنّه كان تِربَ الحُبّ مذ زمنٍ .. فليس يحجُبُه خِلبٌ ولا كَبْدُ
***
العكبري، في شرحه، هو أيضاً ينقل ما قاله الواحدي بشأن الصلة ما ين بيت أبي تمام وبيت المتنبي، لكنه لا يكتفي بذلك إذ يضيف إحالات كثيرة أخرى، فهو يؤكد: "وقد قال هذا المعنى جماعة، منهم منصور النمري:
وكأن موقعه بجمجمة الفتى .. سُكر المدامة أو نعاس الهاجع
وقال مهلهل:
الطاعن الطعنة النجلاء تحسبها .. نوما أناخ بجفن العين يغفيها
بلهذم من هموم النفس صيغته .. فليس ينفك يجري في مجاريها
وقال عبد الله بن المعتز:
إن الرماح التي غذّيتها مهجاً .. مذ متَّ ما وردت قلباً ولا كبدا".
العكبري، وهو يشرح بيت المتنبي الثاني، لم ينس الإحالة إلى بيتي الناشئ، لكن مفاجأة العكبري تأتي حين لا يشير بأي شكل إلى الناشئ ولا إلى قصيدته التي جاء فيها البيتان.
البيتان اللذان قال الناشئ للخالع إنه قرأهما في مسجد الكوفة، وكتبهما المتنبي الصبي، هما، بموجب شرح العكبري بيتان لا صلة لهما بالناشئ وإنما لدعبل الخزاعي (المولود في الكوفة أيضاً سنة 148 هـ)، وقد قيلا في مدح الإمام علي، ويوردهما بتغيير واضح في البيت الأول:
كأن سنانه أبدا ضمير .. فليس له عن القلب انقلاب
وصارمه كبيعته نجم .. فموضعها من الناس الرقاب
وهذه رواية لم أقف لها على أثر إلا عند ابن خلكان في (وفيات الأعيان).
يعود أبو عبدالله الخالع، وقد أورد حكاية الشاعر الناشئ، وأضاف إليها إحالات أخرى لأبي تمام، وإفادة عملها، في ما بعد، ديك الجن متأثرا ببيتي المتنبي، يعود فيختم بالقول: وأبيات المتنبي أمثل من الجميع إذا تركت العصبية.