لا يهمني إن كنتُ الرقم 1234 أو الرقم 4567 أو غيرهما، لا فرق أبداً إذا ما صرت لاجئاً في القارة الأوربية.
سابقاً، امتلكتُ الكثير من الأسماء عبر التاريخ، سافرتُ وتنقّلتُ في بلادي دون خوفٍ من مدافع أو طيارات. فقط كنا نخشى الذئاب والضباع، ونتصيّد الأرانب والطيور، لكننا سجلنا اسم بلادنا في جبين التاريخ ليرث صيتها أولادنا بعد آلاف السنين.
كان جدي سام بن نوح يتنبأ لي بمستقبل باهر، لكن أخاه آرام كان ينظر إلي بحزن كلّما مررت أمامه. لا يمر يوم إلا وأتذكر نظراته الحزينة، وربما لو كان الآن حياً لدمعت عيناه من رؤيتي في عنبر سفينة تهريب قذرة، مبحراً لطلب اللجوء في أوروبا.
كل ذلك التاريخ الذي أحمله فوق كتفي لا يفيدني كي أُقبل في بلدٍ غريب. لن تنفعني نقوش مملكة ماري، ولا أبجدية أوغاريت، ولا انتصار رمسيس الثاني في قادش على الحثيين، ولا حتى مرور الإسكندر في بلادي. كذلك لن ينفع كبرياء زنوبيا الأبية، ولن يفيدني اعتلاء فيليب السوري لعرش روما، ولا وساطاته التاريخية، بل قد يشكّل ذلك أسباباً لعدم القبول بي كطالب للأمان.
دفعت للمهربين تمثال عشتار ثمناً لجواز السفر المزوّر، فألصقوا صورة أجنبي مع اسم أجنبي عليه، وعلموني أن أنطق بلغة لا أعرفها كي أضمن مروري.
تعرّفت إلى كثيرين مثلي، منهم من اختبأ في عنبرٍ، ومنهم من تستّر بشبكة صيد، ومنهم من تدثر بشراع مركب، ومنهم من كان نحيفاً فاتسعت لهم شقوق الأخشاب في السفينة.
وحين اشتد التفتيش في أحد الموانئ، ورأيتُ أقدام المفتشين قرب رأسي، قلت لصديقي: لا تحزن إن الله معنا.
غير أنهم قبضوا علينا وأعادونا من حيث جئنا. لم تنجحْ كل محاولات تركيب الأجنحة واختراق الأجواء، فقد سقطتُ كجدي عباس بن فرناس وقتلتُ فوق سارية علم الدولة الأجنبية، ولم تنفع الزعانف التي ابتكرها أحد المهووسين بتاريخ الفينيقيين أجدادي، فغرقتُ بعد أن مرّتْ فوقي ناقلة نفط.
وجدوا جثتي في صورة كاميرا من نوع "نيكون كان"، التقطها أحد السياح الأجانب الهواة صدفةً حين اعتقد أني دلفين يحاول التقرّب منهم طلباً للطعام.
كم تكرّر موتي وكم بعثتُ!
لا أستطيع التذكر الآن، فأنا كما أنا، إنسان الجغرافيا والتاريخ الذي كتب عليه أن يحمل سيزيف والصخرة معاً.
أما كيف أصبحت رقماً رباعياً ولاجئاً آمناً؟ فذلك أنني أدركت السر؛ رميتُ خلفي ذاكرة كهلة، ثم حملتُ جواز السفر وسجلتُ عليه كل "الفيز" الخاصة برحلات القهر والعذاب التي مررت بها منذ أول صفعة تلقيتها في المدرسة على يد المعلم، وحتى آخر رصاصة تلقيتها في قلبي على يد أخ.
مع ذلك لم يقبلوني، وبقيتُ في معسكر تجمّع اللاجئين، وبحوزتي أوراق مؤقتة بانتظار البت في أمري.