يعدّ كتاب "الرمال العربية" للبريطاني ويلفريد تيسجر من أشهر كتب الرحلة، التي أرخت لمغامرات الرحالة الأوروبيين وجنونهم بالشرق، وبالأخص في منطقة شبه الجزيرة.
أنجز هذا الميجر، والجندي والدبلوماسي، وبطل الملاكمة أيضا، المولود في أديس أبابا سنة 1910، رحلته إلى الربع الخالي بين سنتي 1945 و1950، وقام بمحاولتين، الأولى أخفقت بسبب سوء الإعداد، والثانية حالفها النجاح لوجود شخصين عربيين مهمين كدليلين ضمن فريق عمله، هما سالم بن كبينة وسالم بن غبيشة، وهو في الكتاب يشيد بهما كثيرا لمهارتهما وتفوقهما وقدرتهما على التعقب وقراءة الأثر، مما نجّاه من مخاطر الموت المحقق.
يحكي تيسجر عن إصراره على تجاوز فشله الأول في الإعداد لرحلته، ورجوعه إلى لندن، ثم عودته مرة ثانية، ويلخص ذلك، في أنه لم يأت لمحاربة الجراد، ضمن الشركة الإنكليزية التي كانت مكلفة بذلك، بعد ان شكلت جائحة الجراد تهديدا حقيقيا للمحاصيل في الشرق الأوسط، يقول "ومضت أشهر ثلاثة قبل أن أعود إلى (صلالة). أشهر مضنية من السفر الدائم، تعلمت فيها كيف أعجب برفاقي البدو، وكيف أقدر مهارتهم. لقد أدركت أن التآلف والتواد مع هؤلاء أيسر بكثير من التآلف والتواد مع سكان الحضر من المثقفين الذين هجروا عاداتهم وتقاليدهم إلى تقليد عاداتنا وتقاليدنا".
ويضيف "لقد بدأت أرى الصحراء بعين البدوي، وتعلمت كيف أحكم على الناس بنفس طريقة البدو في الحكم. لقد جئت إلى هنا، لا باحثا عن الجراد، بل عن شيء أهم من الجراد. لقد وجدت الحياة التي طالما بحثت عنها".
دقة الملاحظة
تتميز كتابة الرحالة تيسجر أو مبارك بن لندن، وهو الاسم الذي أطلقه عليه رفاقه من البدو، بدقة كبيرة في الملاحظة، وقدرة على الفهم السريع لتقاليد البدو سكان الصحراء، يقول: "إن كل بدوي يعرف الآثار الخاصة بجمله، ويستطيع بعض البدو أن يتعرفوا على آثار كل جمل رأوه تقريبًا.
فمن نظرة وحيدة إلى عمق آثار قدم الجمل، يعرفون إن كان طليقاً أو مركوباً أو محملاً. من استقصاء الآثار يدركون الجهة التي أتى منها الجمل. فلجمال الصحراء مثلا كعوب ناعمة في أقدامها يدل عليها جلد مسلوخ بال. بينما الجمال التي تأتي من سهول ذات حصى تكون أقدامها مصقولة ناعمة.
كما أن البدو يستطيعون معرفة القبيلة التي ينتمي إليها الجمل. فلكل قبيلة نوع من الجمال يختلف عن نوع غيرها. وهم يستنتجون مكان رعي الجمل من روثه، ويعرفون متى شرب آخر مرة وأين. فيعرفون علاقات القبائل بعضها ببعض وما يقوم بينها من تحالف وعداء. ويستطيعون عن طرق الحدس والتخمين معرفة موعد هجوم قبيلة على أخرى. البدوي وسيلة إخبارية ناجحة إذا ما التقى بغيره، بل إنه يسافر خارج موطنه للحصول على أخبار جديدة".
تتبع الأنساب
يحاول مبارك بن لندن أن يظهر في رحلته الأولى والثانية للربع الخالي قدرته على فهم تشابكات الأنساب العربية، ورسم ملامح كل قبيلة ومقدار المشتركات والاختلافات التي تجمعهم أو تميزهم.
ومثال ذلك حين يتحدث عن قبيلتين عربيتين هما بنو رشيد وآل كثير، يقول: "كان بنو رشيد أقارب وحلفاء بيت كثير، ويرجع نسب الاثنين إلى آل كثير. وبدو بيت رشيد يرتدون الأردية العربية الطويلة، والملاحف المصبوغة باللون الخمري الفاتح، المستخرج من بعض أعشاب الصحراء. وأجسامهم ضئيلة إلا أنهم يتميزون باليقظة والوعي وقدرة الاحتمال والحيوية.
ولا غرو فقد نشأوا في بيئة من أصفى البيئات وأنقاها، وعاشوا في جو لا يحيا فيه إلا كل قوي، متين البنيان. لقد بدا أفراد بيت كثير إلى جانبهم وكأنهم عرب زائفون، تنقصهم اللمسة الأخيرة من حياة الصحراء".
غير أن محاولته الأولى لاجتياز الربع الخالي ستمنى بالفشل، فقد استمع لنصائح مرافقيه من آل رشيد الذين طلبوا منه عدم المجازفة بسبب الحر، لكنه أرجأ المحاولة إلى وقت آخر. يكتب "كنت أتمنى أن أوفق في اجتياز الربع الخالي، وكنت أرجو أن يتيسر لي قطع هذا الجزء من الصحراء مع آل رشيد، بعد أن وصلنا إلى حضرموت، ولكن ما إن فاتحتهم في الأمر حتى أقنعوني بعدم نجاح الفكرة لقسوة الحر في ذلك الوقت. فوافقت مصمماً على العودة إليه يوما. واعتبرت رحلة هذا العام تجريبية للرحلات اللاحقة، ووجدت في آل رشيد ضالتي للمغامرات المقبلة".
المحاولة الثانية
سيخوض مبارك بن لندن محاولته الثانية في سنة 1946، بعد أن أخذ موافقة من الدكتور "أوفاروف" مدير متحف التاريخ الطبيعي في لندن، متغلبا على مجموعة من العوائق، وعلى رأسها الحصول على تراخيص من قبل السلطات في المنطقة، يقول: "وصلت إلى "صلالة" في السادس عشر من شهر أكتوبر/تشرين الأول سنة 1946. وعزمت على اجتياز صحراء الربع الخالي مبتدئا من "مقشن" إلى ساحل الهدنة على أن أعود إلى صلالة عبر مدارج الحصى الواقعة في مؤخرة عمان".
في الرحلة الثانية التي سيصطحب فيها الشاب سالم بن كبينة، (ولاحقا سالم بن غبيشة)، والذي سيكون سنده، يكشف عن تفاصيل تلك الاستعدادات، والتي استعان فيها بأدلاء مهرة ومتعقبي أثر غاية في الاحترافية. وهو في غمرة الاستعدادات، مع "فريق عمله"، لا يني يزين مفاصل رحلته ببعض المقاطع المشوقة التي تعكس رهافة حسه وتشربه ثقافة عرب الصحراء، يقول: "كان من الصعب علينا التحرك من مكان إلى آخر، فقد سكنت الإبل إلى مكانها حين وجدت المرعى. وكان ضوء القمر ينير وجوه الرجال، ويرسم الخيالات على رؤوس الجمال ورقابها. وأخذ الرجال يلقون إلي بأسئلتهم. أين كنت مذ غادرتنا وماذا فعلت خلال هذه المدة؟ أذهبت إلى الحجاز؟ أين يوجد الحجاز؟ هل ساكنوه من البدو؟ انهالت علي الأسئلة وأجبت عنها، ثم بدأ دوري في السؤال والاستفسار".
ربما لم يتخلص تسيجر(مبارك بن لندن) كغيره من الرحالة الأوروبيين من تلك النظرة "الإكزوتيكية" إلى الآخر، وبالأخص من يعتبرونه "بدائيا" أو غير متمدن على وجه التدقيق. وهذه أحد معايب تلك الكتابات، المسكونة بالبحث عن "الأمكنة العذراء"، والبشر الخلّص والحكايات السحرية.
أدلاء ومتعقبو أثر
يحبل كتاب "الرمال العربية" بأكثر الصور إشراقاً وغرائبية عن عرب وبدو الجزيرة، ويحاول مبارك بن لندن، أن يقدم نفسه في مقام المغامر، الذي يقف الحظ دائماً إلى جانبه، والرجل الجلد الصبور الذي لا يقل عن هؤلاء البدو، الذين اشتغلوا ضمن فريقه كأدلاء وحماة، عركاً للمطبات ومقاومة للمشاق وقدرة على الصمود.
يكتب مثلا ببعض الحس الفكاهي عن مبيته في عراء الصحراء: "مرت الساعات سراعاً، ونهضنا الواحد تلو الآخر، نبحث عن مكان للنوم. وتركت متاعي خلف الصخور. واخترت مكان نومي على مقربة من موقع منبسط من الأرض. وقد وجدت جملا راقدا فيه ولكن المكان كان يتسع لكلينا، ففرشت سجادتي وجلدي قربه. والطقس في الصحراء قارس البرد، ولهذا قاسيت الكثير منه نائما تحت غطاء واحد".
فائدة سوسيولوجية
هذه الرحلات، عظيمة الفائدة، إذ تضعنا في صورة الحياة القبلية قبل قيام الدولة في المنطقة العربية، بالمعنى الحديث لمفهوم الدولة، كذلك تقدّم مادة وافرة من المعلومات، التي لا بد من استحضارها، في ظل الحديث عن منطقة الجزيرة العربية، والخوض في تفاصيل ما ستصير إليه، قبيل النفط وبعده، وهو ما جعل هذا الرحالة البريطاني (مبارك بن لندن) يقول إن دخول التمدن إلى هذه المناطق في شبه الجزيرة ووصوله إلى الصحراء قد جعلا صحراء الجَمال والنقاء تختفي إلى الأبد.
من المؤكد تماماً أن الرحالة الأوروبيين لم يكونوا يكتبون للقارئ العربي، بل كانوا يتوجّهون رأساً إلى القارئ الأوروبي، وخير دليل على ذلك أن تلك الرحلات قد لاقت نجاحاً كبيراً في الغرب وتحولت إلى السينما أو إلى وثائقيات شهيرة.
وعلى الوجه الأصوب، كانت فائدتها جلية لدى مراكز الأبحاث والدراسات وفي أرشيفات أجهزة الاستخبارات، فأغلب الرحالة الأوروبيين كانوا من أصحاب التكوين العسكري والتدريب المهني العالي، ومرّوا بتجارب سابقة قوية وشاقة قبل الإقدام على إنجاز ما خططوا له من رحلات، مدعومة مادياً و"أدبياً" من قبل سلطاتهم في بريطانيا أو فرنسا أو هولندا أو إيطاليا وغيرها من الدول التي كانت ترسل "مستطلعيها"، حتى لا نقول "مخبريها"، إلى البلدان العربية، تحت صفات ومهن متعددة، جغرافية أو طبية أو تجارية أو دبلوماسية وغيره.
المرأة والناقة التي تعرف صاحبها وتشمّه ليلاً
في قلب رحلته هاته، يسجل تيسجر الكثير من الملاحظات التي تهم الأحوال العربية، ويعقب على أحكام القيمة السائرة التي دونها رحالة أوروبيون سابقون عن العرب عامة، الحياة في شبه الجزيرة العربية خاصة، في العقود الماضية التي سبقت رحلته.
يقول في هذا الصدد، معقبا على بعض من تلك الأحكام التي لا تستند إلى برهان ولا حس الاحتكام إلى وقائع الأمور ومجرياتها على الأرض: "قرأت لكثير من الإنجليز عن الإبل، ولكنني أعتقد أن كل ما كتب إن دل على شيء فإنما يدل على جهل الكاتب بحقيقة هذه الحيوانات، وعلى أنه لم يعش بين البدو، ليعرف قيمتها. فالبدوي يسمي الجمل "خير الله".
وطبيعة الصبر عند الإبل تجعلها محببة عند العرب. وما راي أعرابيا قط يضرب جملا أو يقسو عليه. ولا يرجع السبب في هذا إلى اعتماد الأعرابي على الإبل فحسب، بل إن الأعرابي يكن حبا صادقا للجمل، لقد رأيت زملائي يقبلون الجمال ويربتون على ظهورها، وهم يتمتمون بعبارات الحب".
هناك تفاصيل أخرى، يسردها تبين عمق هذه العلاقة بين البدوي وجماله، يقول "وفي أثناء سيرنا عبر الصحراء، على مسيرة نحو ثلاثين ياردة من إبلنا، تحدى سلطان زميلا له أن يدعو إليه ناقته، ودعا الرجل الناقة فأتت مسرعة. وناقة أخرى كانت شديدة الحب لصاحبها إلى حد التعلق به. فكانت تُهمْهم وتأتيه وهو نائم لتشمه قبل العودة إلى المرعى، وأنبأني أحد الرفاق أن هذه الناقة لا تسمح لغريب أن يمتطيها ما لم تكن معه قطعة من ثياب صاحبها.
والإبل جميلة في أعين البدو، يتغزلون فيها، ويشببون بها، كما يفعل الإنجليز مع فرس أصيل، ولا ريب أن هناك شعورا بالقوة والتناسق والرشاقة في تكوين هذه الحيوانات. ومن النادر أن ترى أعرابيا يعدو بجمله، فالبدو يسيرون في بطء". لم تكن الرحلة الثانية للربع الخالي، سهلة، وهي الرحلة الحقيقية التي ستتم في مجاهل هذه البيداء وقساوة عبورها، فمفتتح الرحلة يشي بما سيلي من أهوال، يكتب تيسجر "بدا النهار كئيبا وعاصفا، وارتفعت الشمس إلى كبد السماء، دون أن تهب الأرض دفئا، وأحضر ابن قبينة تمرا وبقايا خبز من الليلة الماضية ودعانا للأكل فرفضت، وقبعت خلف صخرة اتخذت منها ملجأ من العواصف والزوابع. وساءلت نفسي، أي حق لي في دفع هؤلاء الرجال الذين وضعوا ثقتهم في، إلى مواطن الموت المحقق".
يدون تسيجر ملاحظات سوسيولوجية مهمة للغاية، تخص المجتمعات البدوية في الجزيرة العربية، ويردّ على ما يرد في الكليشيهات الجاهزة الغربية، ومن هذه الصور النمطية، ما يتعلق بوضعية المرأة العربية ودورها الاجتماعي و"حرية" حركتها، يكتب "يعتقد الشعب الإنجليزي، خطأ، أن نساء العرب يعشن وكأنهن في سجون، وإذا صح هذا بالنسبة للنساء في المدن فإنه غير صحيح بالنسبة لنساء البدو. فمن المستحيل أن يسجن رجل امرأته وهما يعيشان في ظل شجرة أو خيمة مفتوحة على الدوام من أحد جوانبها. كما أن الرجل البدوي يطلب من امرأته أن تعاونه، فتحتطب وتحضر الماء من البئر وترعى الماعز، بل إن البدوية إذا رأت من زوجها إعراضا أو إهمالا تركته إلى أهلها ويضطر إلى استرضائها كي تعود معه".