أذكر أنني قرأت رواية "تشوتشارا" (تُعرف أيضاً بعنوان "امرأتان" وهو عنوان فيلم شهير اقتبس منها) لألبرتو مورافيا (1907 - 1990) في تسعينيات القرن الماضي. تلقيتُ الكتاب من "ملائكة المدينة" الذين يوزّعون الأغطية والأطعمة الساخنة في فصل الشتاء على المهاجرين والمشردين. أحياناً، وبمبادرة من بعض الفتيات اللواتي كرّسن حياتهن لعمل الخير، يُضاف كتاب إلى المعونة ضمن افتراض بأن الروح أيضاً بحاجة إلى غذاء.
منذ فترة قصيرة، التقيت صدفة بصديق لا أعرف كيف خطر بباله أن يشتري نفس الكتاب ويهديني إياه. قرأت الكتاب مرة أخرى، والحق أني استمتعت به أكثر من المرة الأولى، لِما وجدت فيه من إسقاطات مع الحاضر، وربما مع المستقبل الذي يهدد حياة ملايين من أناسنا الهائمين في أرجاء المعمورة.
عام 1957، بعد عقد تقريباً من انتهاء الحرب العالمية الثانية، نشر مورافيا روايته هذه، التي تؤرّخ لاحتضار الفاشية والتحوّل العميق الذي سيشهده المجتمع الإيطالي لاحقاً. نحن في عام 1943، حيث تجد تشيزيرا، وهي صاحبة متجر وأرملة متهوّرة بعض الشيء، نفسها مرغمة على مغادرة روما مع ابنتها روزيتا البالغة من العمر ثمانية عشر عاماً. تخبرنا الأم بنفسها عن تجربتها، فبعد أن تخلّت عن متجرها - مع أمل العودة في غضون بضعة أسابيع - تذهب مع ابنتها إلى فيلليكورسا في تشوتشاريا، مقتنعة بأنها يمكن أن تجد ملجأً لها في منزل والديها. لكن القطار الذي ينقلها مع ابنتها يتوقف في قرية فوندي. هنا تستنجد البطلتان بالفلاحين فيتم إيواؤهما مع بعض النازحين الآخرين في بعض الأكواخ الصغيرة.
قضت الأم وابنتها تسعة شهور هناك بملل ورتابة، يتخللها الخوف من القصف الجوي وانعدام الموادّ الغذائية. خلال هذه الإقامة غير المعتادة، تتعرف الأم وابنتها إلى شخصيات مختلفة، من بينها ميكيل، وهو شاب جامعي مناهض للفاشية ومثالي إلى حد ما، حيث ترتبطان معه بصداقة قوية وسرعان ما تقع تشيزيرا في حبّه، ونكتشف لاحقاً أن روزيتا أيضاً قد حصل معها الشيء نفسه. لكن الرواية لن تأخذ منحىً عاطفياً، فسيختفي ميكيل من الرواية حين يختطفه الجنود الألمان لأنهم في حاجة إلى دليل لعبور المنطقة الجبلية، خشية الوقوع بين أيدي قوات المقاومة الشعبية "البارتيجان".
مع نهاية الحرب، وفي الوقت الذي تعتقد فيه تشيزيرا وروزيتا أنه يمكنهما العودة بأمان إلى روما، تتعرضان لهجوم من مجموعة من المجندين المغاربة في الجيش الفرنسي، وتكون محصلة هذا الصدام غير المتكافئ اغتصاب روزيتا الصغيرة التي ستعيش منذ هذه اللحظة أزمة نفسية عنيفة.
حادثة الاغتصاب هذه، وعلى الرغم من تموقعها في النصف الثاني من الكتاب، فإنها تعدّ النقطة المركزية للرواية. يكتب مورافيا في هذا الصدد رسالة إلى ناشره عام 1956، قائلاً: "سيظل العنوان "تشوتشارا" على الرغم من أن العنوان الأكثر ملاءمة هو "الاغتصاب". بل "اغتصاب إيطاليا"". كما لو أن مورافيا هنا لا يريد التأكيد فقط على العنف ضد الفتاة، ولكن اغتصاب بلد بأكمله بعد الحرب. حتى إنه يقترح على ناشره أن يحمل الغلاف عملاً لبيكاسو، تفصيلاً من لوحة غيرنيكا، أو عملاً لـ غويا، بطريقة تجعل القارئ يفهم على الفور الموضوع الذي تعالجه الرواية: أهوال الحرب.
بحسب بعض النقاد، فإن الرواية عبارة عن سيرة ذاتية، على الرغم من صعوبة التعرف إلى مورافيا في شخصيات العمل، وخصوصاً في الشخصيات الرئيسية، الأم وابنتها، غير أن المؤلف كان قد واجه تجربة مماثلة عام 1943، عندما فرّ من الحرب ولجأ مع زوجته إلسا مورانتي إلى جبال تشوتشاريا، حيث مكث هناك لمدة ثمانية أشهر على غرار تشيزيرا وروزيتا.
هذا يعني أنه من المرجّح أن يكون الكاتب قد استعان بهذه التجربة على نطاق واسع في الرواية، بل يقدّر بعضهم أن شخصيات تشيزيرا وروزيتا وميكيل هي وحدها الشخصيات المتخيّلة، بينما كل الآخرين هم إعادة إنتاج أدبي لمن تعرّف إليهم مورافيا أثناء إقامته في الجبال. وعلى الرغم من أن الكاتب، خلال الفترة التي قضاها هناك، كان تفكيره منحصراً في البقاء على قيد الحياة فحسب، إلا أن بعض الشهود أكدوا لاحقاً أنهم رأوا مورافيا أكثر من مرة وهو منهمك في تدوين ملاحظاته، وقد تكون تلك بعض التفاصيل التي استفاد منها لاحقاً لصياغة عمله.
كان مورافيا قد بدأ في كتابة روايته في 1946، وقد تحدّث عن صعوبة كتابة هذ العمل. ربما كان يخشى الوقائع التي عاشها شخصياً، ولا تزال قريبة جداً، ثم لانشغاله بأعمال صحافية وسينمائية، ليعود بعد قرابة عشر سنوات لهذا النص، وقد أحسّ بأنه بات قادراً على التفكير بشكل أكثر موضوعية في ما حدث، وهو ما يتجلّى في بقية الحكاية حيث يبدو وكأنه يدرس عن قرب مسار الشخصية المغتصَبة، فـ"روزيتا الصغيرة"، هكذا كانت توصف بسبب سلوكها الطفولي، ستتغيّر تماماً بعد تلك الحادثة ولن تكون الفتاة المثالية والمطيعة، بل ستصبح فجأة امرأة مستهترة وشهوانية تعاني من الملل ولا تحمل أيّ قيم أو عواطف.
الأم نفسها بدت أنها فقدت الأمل بابنتها التي دمرتها الخطيئة، بعد أن كانت تعتبرها "قديسة". وما يجعل الاغتصاب حدثاً أكثر إثارة للصدمة، هو الموقع، حيث يحدث كل ذلك في كنيسة "تحت أعين السيدة العذراء"، كما تقول تشيزيرا.
قبل أيام قليلة من التحرير، يصل لـ تشيزيرا وروزيتا خبرُ موت ميكيل المأسوي، فقد أعدم رمياً بالرصاص من قبل الجنود الألمان، لتنفجر المرأتان في بكاء مرير. لكن نهاية مورافيا كانت تُظهر أن الأم وابنتها بقيتا متكاتفتين ومرتبطتين بقوة رغم كل ما حدث، كأنما ترمزان لإيطاليا الراسخة بتاريخها وتقاليدها، التي ستنجح في لملمة جراحها وبناء ما خرّبته الحرب.
تحوّلت الرواية إلى فيلم سينمائي عام 1960، من إخراج فيتوريو دي سيكا، وقام ببطولته صوفيا لورين، وجان بول بلموندو وإليونورا براون. وقد اشتهرت صوفيا لورين، التي كانت تبلغ السادسة والعشرين آنذاك، إثر هذا الفيلم، الذي حاز في وقتها جائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي.
* كاتب ومترجم سوري مقيم في ميلانو