ما هو دور الأركيولوجيا في عالمنا المعاصر اليوم؟ هل يمكن أن تكون الإجابة بسيطة، كأن نقول إنها تحاول استعادة الماضي الإنساني، وبناء ذاكرتنا من جديد، أم أنها تصنع هذا الماضي وتقدّم البراهين على أنصاف حقائق لتجعل منها حقيقة كاملة؟ ولربما تكون مزيجاً من هذا وذاك؟ غالباً ما تعتمد الإجابة على الأركيولوجي نفسه، من هو وأين يعمل ولمن وعن ماذا يبحث؟
يستعيد الأكاديمي أسعد سيف مقولة برونو لاتول بأن "الجيولوجيا لا تتكلم، لكن الجيولوجيين يتحدثون باسمها وينسبون إليها ما يريدون"، وهذا هو حال الأثريين، إذ إن الآثار صامتة وينطق الأركيولوجيون باسمها، و"الخطورة تكمن في البعد عن الخط الرصين للبحث العلمي، فأحياناً قد ينطق الآثاري بما يتفق مع أهواء شخصية، لكن من المفترض أن تردّنا الموضوعية العلمية إلى الطريق الصحيح"، يقول سيف، في محاضرة بعنوان "حين تتحول الأسطورة إلى تاريخ" ألقاها في دار النمر في بيروت، الخميس الماضي، وتناول فيها العلاقة بين الدولة القومية والأيديولوجيا والسرديات الأركيولوجية.
بدأ سيف بالقول إن محاضرته تجريبية؛ يستكشف من خلالها دور علم الآثار في العملية التراكمية التي تبدأ مع الأساطير ثم تنتهي إلى التاريخ الثابت، وكيف يجري استخدام الآثار بحيث تبدو الأسطورة التي ابتكرناها حقيقة. كيف تصير الأسطورة تاريخاً؟ سؤال تناوله كلود ليفي شتراوس بإسهاب في كتابه "الأسطورة والمعنى"، وهو دراسة أجراها على الهنود الأصليين في كندا، ويلفت إليها سيف، إذ يقول شتراوس إن كل أسطورة تبدأ بكيفية خلق الكون، ثم العائلة والقبيلة.
يؤكد سيف أن "ليس الهنود فقط من يتبع هذا التسلسل بل كل المؤرخين، ومن بينهم تاريخ اليعقوبي مثلاً الذي يبدأ بقصة آدم وحواء قبل أن ينتقل إلى سلالتهما، وكذلك هو التوراة الذي يبدأ بقصة الخلق ثم يروي أخبار مجموعة من البشر أو القبيلة التي لها علاقة بهذا الكتاب". كل هذه الأقاصيص بدأت شفهية وحرّفت كثيراً قبل أن تصل مكتوبة اليوم، من هنا فإن التاريخ يحتاج إلى مراجع أصلية، ووثائق وعلماء الآثار لا يبحثون عن القطعة لوضعها في المتحف وحسب، بل إن الشغل الأساسي هو التعرف على الإنسان الذي كان يعيش من خلال البقايا المادية التي تركها.
يقول سيف إن "الآثار استعملت لوضع حدود ثقافية معيّنة، وأحياناً لتأكيد واقع معين مرتكز على الميثولوجيا، من ذلك الأساطير المؤسسة لفكرة الأمة، وهي فكرة قديمة حدودها غير ملموسة وضبابية. فالحقيقة غير موجودة، الناس تركض خلفها لكنها لا وجود لها، ما هو موجود هو زوايا نظر مختلفة إلى الواقع".
يعود سيف في البداية إلى شواهد تاريخية عدة، فيقف عند فرنسا والهوية الفرنسية، فيقول إنها "الفرنجية وهي هوية معتمدة من ملوك فرنسا، والفرنجة هم قبيلة جرمانية نزلت تحارب الرومان في الفترة الرومانية المتأخرة ونجح ملكهم كلوفيس في السيطرة على روما واعتنق الديانة المسيحية، فرأت الملكية الفرنسية أنه هوية لسلف يناسبها، فقالوا إنهم متحدّرون من كلوفيس لتكون لهم هوية تفرقهم عن هوية الشارع. ساعدهم على ذلك أن كلوفيس تعمّد واعتنق الديانة المسيحية".
وحين حصلت الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر بدأت فترة الانهماك بالبحث عن أصول الإثنيات تظهر في أوروبا، وهذا أثر في البلدان الأوروبية التي تريد تأكيد وجودها بالانتساب إلى الغاليين أو الجرمان أو الرومان، وهذا نوع من التثبيت السياسي وليس الهوياتي فقط، وهنا أصبح الغاليون هم أسلاف الفرنسيين.
من فرنسا انتقل سيف إلى تجربة البحث عن السلف في لبنان، من خلال العودة إلى حفريات منطقة جبيل مطلع القرن العشرين، فطرح الكيفية التي جرى من خلالها بناء السلف الفينيقي للوطن اللبناني، بل كيف صار هذا هو هدف الحفريات في جبيل وأشمون وغيرها عام 1920. آنذاك أرسلت فرنسا الآثاري بيار مونتيه، الذي سيعثر على قبر أحيرام وعليه كتابة بالفينيقية، وسيعتبره الدليل الحسي الذي يناسب الأيديولوجيا التي يمكن من خلالها بناء فكرة السلف الفينيقي للبنانيين.
كان الهدف من الحفريات أن يكون تقسيم المنطقة مبنياً على تعدد الإثنيات والهويات، يؤكد ذلك ما كتبه عالم الآثار الفرنسي موريس دونان في مقدمة كتابه عن مشروع حفريات جبيل، ويتحدث بشكل صريح عن المشروع الفرنسي الذي يريد أن يجعل من الفينيقيين أسلافاً للوطن الأمة في لبنان.
يتقدم سيف في محاضرته، فيصل بنا إلى المثال اليهودي، ويبدأ من لحظة ظهور هرتزل، الذي كان متأثراً بأفكار القومية الجرمانية وتنقل بين فيينا وباريس ولندن، وفي هذه الأخيرة التقى بالمجمع اليهودي وكانت الفكرة أن هناك اضطهاداً لليهود في أوروبا وأن هؤلاء لديهم مكونات الأمة التي تحتاج إلى مكان جغرافي تقوم عليه، وكان القطب الأول في اجتماع المجمع يريد إقامتها في غرب أفريقيا، والثاني في فلسطين، ومن وقتها جرت التحضيرات لانتقال اليهود إلى فلسطين، مرتكزين على الأسطورة.
تكوّنت أسطورة إسرائيل بالضبط، كما وصف شتراوس سابقاً، ببناء أسطورة التكوين، ثم الأساطير التي تجمع العائلات ثم تصل أخيراً إلى بناء القبيلة ذاتها، لكن كان ينقص عملية تحويل الأسطورة إلى قصة حقيقية؛ الدليل الحسي، والأركيولوجيا كانت الوسيلة الأنجع، وهنا ظهر ما يسمى بـ"الأركيولوجيا التوراتية".
يبيّن سيف أن هذه الأخيرة تشتغل بعكس الأركيولوجيا العلمية، التي تقوم على عمل حفريات وما يظهر يحلله الآثاري، أما "الأركيولوجيا التوراتية" فتقوم على وجود فكرة ما نبحث عن دليل عليها في الحفريات إلى أن نثبت وجودها. اليوم ثمة مجلات علمية متخصصة في "الأركيولوجيا التوراتية" مهمتها نشر كل ما يؤكد القصة التي تقولها نصوص التوراة.
يقول سيف: "الهذيان يصل إلى العثور على سدوم وعمورة، وكلنا نعرف أنها قصة موجودة بنصوص كثيرة في الشرق القديم"، بالمقابل "ثمة تيار من الأركيولوجيين في العالم اليوم يقول بضرورة مراجعة الاستنتاجات الأركيولوجية التي خرج بها الآثاريون في فلسطين، لأنها ليست دقيقة ولم تقرأ بالطريقة العلمية الصحيحة".