رغم تنويع تصويره، من العلّامة إلى العميل، ظلّ عبد الرحمن بن خلدون في الذهنية العربية، في أشهر تعريفاته وأوسعها انتشاراً، مؤسّس علم الاجتماع، كأنه تأكيد لا نملّ منه، وبأنه "صاحب فضل" على الغرب الحديث بما أنه واضع قواعد العلم الذي يفهمون من خلاله مجتمعاتهم (ومجتمعاتنا أيضاً).
كان المؤرّخ التونسي الهادي التيمومي قد ضمّن كتابه "جينيالوجيا تأخّر تاريخي" (صدر بالفرنسية)، بحثاً بعنوان "هل كان ممكناً أن يخترع ابن خلدون علم الاجتماع؟".
ينفي التيمومي هذه الإمكانية باعتبار أن صاحب "المقدّمة" لم يستطع وضع إصبعه على قانون تطوّر مجتمعه (الصراعات الاجتماعية وبُعدها الاقتصادي) ولو أنه فَعَل ذلك لكان مسار الحداثة انطلق من تاريخنا، باعتبار أنه عاش في القرن الخامس عشر زمن ظهور الحداثة في أشكالها الجنينية.
حين نعود إلى صورة ابن خلدون المتداولة لدينا، حيث نصرّ بطريقة مدرسية على أنه مؤسس علم الاجتماع، سنجد وكأننا إزاء عملية إعفاء جماعي من النظر في المؤسّسين الآخرين (الألمانيّين كارل ماركس وماكس فيبر، والفرنسيّين أوغست كونت وإميل دوركايم)، ولعل هذا الإعفاء لا يتعلّق فقط بالنظر إلى الخارج بل إنه في الأساس متعلّق بالنظر في ما يَحدُث في مجتمعاتنا، فوجود ابن خلدون ومنجزه - بتلك الصيغة التضخيمية المفرغة - يوهم بحالة إشباع تقتل الرغبة في ابتكار أدوات جديدة للفهم.
على مستوى أكاديمي، وفكري بصفة عامة، يحضر ابن خلدون بقوة كمرجع للتفكير في الحاضر، إذ نجده مثلاً في منطلقات مسيرة ثلاثة مفكرين بارزين من جغرافيات عربية متنوّعة؛ المغربي الراحل محمد عابد الجابري، خصوصاً في كتابه "العصبية والدولة"، واللبناني ناصيف نصّار في "الفكر الواقعي عند ابن خلدون"، والتونسي أبو يعرب المرزوقي في "الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر". هذه المرجعية، على أهمية مضامين الأعمال المذكورة، تكاد توحي بنزعة سلفية تسكن لحظة التفكير في الحاضر العربي.
في مقدّمة "المقدمة"، كتب ابن خلدون "التقليدُ عريقٌ في الآدميّين وسليل، والتطفّل على الفنون عريضٌ طويل". يبدو هنا خبيراً بما في النفوس البشرية من نزعة للكسل (التقليد) والمغالطة بلا تملّك (التطفّل على الفنون)، وكأنه قد وضع هذه الكلمات نصب عينيه وهو يقف أمام مشروعه المركّب؛ "المقدمة" ثم "كتاب العبر"، فارضاً على نفسه الحرص والصبر والقسوة مع الذات تفادياً لهاتين المثلبتين.
مثلبتان تتجلّيان بقوة في واقعنا المعاصر، حيث ينتشر "التقليد" والتطفّل" في كل مكان، بل إنهما تبرزان في الفضاءات المعرفية قبل غيرها. المفارقة أن ابن خلدون بالذات يُستعمل كوسيلة لنشر عدوى هاتين المثلبتين، المقلدون يقلّدونه وكأنهم يعيشون معه في القرن الخامس عشر، والمتطفّلون يتجمّلون به، والجميع مرتاح للوقوف عند تعريفه بـ "مؤسس علم الاجتماع"، إلا من حرص على نفسه من التقليد والتطفّل على الفنون، مثل ابن خلدون.