تطرح رواية "كديسة" للكاتب المصري حجاج أدول (1944) عدّة تساؤلات خارج الرواية ككيان سردي، تشمل المشروع الذي عمل عليه الكاتب في روايته الصادرة نهايةَ العام الماضي عن "دار العين" في القاهرة. أولى تلك التساؤلات: هل يمكن وصف العمل بأنه رواية تاريخية؟ ولماذا يجري استدعاء حقبة ما من التاريخ، وأي دلالات لذلك؟
رأس الخيط الروائي في العمل سنجده ملتحماً ببدايات ظهور تيار "العقلانيين" في أوروبا في القرن الثاني عشر، والذي أخذ روّادُه يجاهرون برفض فكرة الحملات الصليبية، والإغارة على الشعوب الشرقية، إضافةً إلى التنديد بما تخلّفه الحملات من قتل وتعصّب، ليبرز معسكران: معادٍ وآخر عقلاني، وإن كان في بداية بزوغه، ولا يزال مُفتقداً لمناصرين.
هكذا، نفهم أن العودة إلى بذور العلاقة بين الشرق والغرب هو سبب استدعاء أدول لتلك الحقبة من التاريخ، لمقاربتها بواقع لا يزال يشهد نزاعاً وعداوة بين الشرق والغرب تحت مسمّيات عدّة، من استعمارٍ ونشر للديمقراطية، وصولاً إلى مكافحة الإرهاب، وكلّها تسميات تظلّ متستّرة وراء التعصّبات الدينية والقومية وما وراءها من مصالح.
لكن هناك تساؤلاً آخر: هل يكفي هذا الاستدعاء لرؤية واقعنا المعاصر بشكل أوضح، خصوصاً أن الكاتب جعل من الحب خلاصاً لتلك الحروب؟ وما حال القارئ المنفتح على نظريات الاستشراق، وما بعد الاستشراق والكولونيالية وما بعدها، حين ينتهي من قراءة هذه الرواية؟
تقوم رواية أدول على البحث عن السبيل إلى إقامة السلام والحب بين الشرق والغرب، وبشكل أدقّ بين شعوب شمال وجنوب البحر المتوسّط. يبدأ هذا البحث بعد المعركة الطاحنة التى قامت بين جيوش الصليبيين وأهالي دمياط عام 1249م، ومُنيت الحملة الصليبية بهزيمة ساحقة، ما دفع المشاركين فيها إلى إعادة النظر في فكرة الغزو من أساسها، حيث أخذوا يقارنونها بتعاليم المسيح الأصلية، ليبدؤوا في اكتشاف أن الحملة برمّتها ما هي إلا حملة لكسب الغنائم مع توظيف التعصّب الديني ضد "المحمّديين" في الشرق.
استطاع أدول فى روايته أن يركّز على تنويعات فنية باتت تعتمد عليها الرواية التاريخية، وتجعل منها إحدى إضافاتها البارزة في الفن الروائي، مثل تصوير الحياة الشعبية، أكثر من اعتمادها على تصوير الشخصيات التاريخية البارزة؛ حيث إن الشخصيات الثانوية في الرواية هي التي أثارت اهتمام الكاتب أكثر من غيرها، وبالتالي أُبرزت للقارئ، مقارنةً بالشخصيات التي تذكرها كتب التاريخ.
هكذا قامت الرواية على أشخاص ثانويين ورصدت الحياة الشعبية لسكان الإسكندرية في عدّة حقب على مدار ثلاثة أجيال. أما مكانياً، فتوزّع العمل على بيئتين مختلفتين؛ مرسيليا في فرنسا والإسكندرية في مصر.
لكن، يبدو أن ثمّة شيئاً من الاختلال في هذا التوزيع؛ إذ لم يرصد الكاتب الحياة الشعبية فيها بالزخم نفسه الذي خصّصه للإسكندرية، إذ ظهرت مرسيليا كمدينة يجري تصويرها من كاميرا بعيدة، فلم تتداخل بالحيوات والشخصيات مثلما انخرط العمل فى شخصيات وحيوات أبطال من المدينة المصرية.
حين يحتدم الصراع ضد "العقلاني" الفرنسيسي وابنه حميدو (المسلم)، يسلّط الضوء على شخصيات التجّار في المدينة ورجال الدين ونقاشاتهم، لكن عموماً بقيت مرسيليا فى ذهن القارئ مجرد مزارع عنب ممتدّة وبحر هائج وشتاء قارس وبرجين يحوطان قصر عائلة فيكتور.
من الأسئلة التي يثيرها العمل أيضاً، استعمال الإدهاش في رواية تاريخية. ما معنى الإدهاش؟ وما جدواه إن كان القارئ استطاع بسبب تكراره أن يتوقّع الحالة أو الحدث قبل وقوعه؟
مثلاً، ما معنى أن يولَد كلود الثاني السمين بشامة فى خدّه للدلالة على أنه سيحمل رسالة السلام والمحبة، ثم يُولد كلود الثالث بشامة أيضاً، وبعده يولد ابنه حميدو بشامة حتى بات القارئ يتوقّع أن كل ذكر جديد يُولد في عائلة فيكتور سيحمل شامةَ لا محالة؟ وما دلالة الشامة ضمن السياق السردي والتاريخي للرواية؟
الاستعمال في حدّ ذاته ليس مدهشاً. لعلّ المدهش أن تولَد كلّ بنات العائلة من دون شامة النبوة وحمل الرسالة. هذا الانخراط فى مثل هذه التفاصيل يورّط الكاتب فى تفسيرات، قد تكون لها تقاطعات مع الواقع، خصوصاً أنه أهدى روايته إلى الشهيدة شيماء الصباغ.
ربما يرى أدول أنه أدّى مهمته فى اختيار "حميدو" الهجين بين الشرق والغرب، البطل الأخير فى الرواية الذي سيسعي إلى نشر رسالة السلام والمحبة بين الشرق والغرب، وحوله "حوريات بحر طيّبات وهن يتفاءلن خيراً" (آخر سطر في العمل).
وكأنه يصرّ على أن يختتم روايته بالتفاؤل، من دون أن يرطم رأس الشرق والغرب فى الحقائق التى دفعتهما إلى العداوة، مؤكّداً القراءة الأكثر تداولاً عن مسؤولية رجال الدين المتعصّبين من الجانبين. ومن الواضح أن حصر تاريخ كامل من الحروب والعداوة فى شرور رجال الدين - على حساب أسباب أخرى قد تكون أكثر وجاهة - فكرة جاهزة من الغرب نفسه.
اقرأ أيضاً: سيرة الكلمة وصوتها