غزة
طائرات بلا طيار تراقبنا
وإلى مخلوقات فضائية نائية
تعيد إرسال صورٍ
تلتقط رقصتنا اليومية
طقوس الأمل والبؤس
خرائب الحب والحرب
حماراً ينقل الحزن والبهجة
الليمون المرّ وأحلى كعك مقلي
الزيتون والعنب والأغصان
ما يهب الله من مواليد وما يأخذ من شهداء
شِباك الصيد الفارغة وأنفاقنا السخية
محطة توليد الطاقة العاطلة عن العمل
بحرٌ بلا أفق يحدّقُ بنا من دون أن يرفّ له جفن
مجنّدون مصابون بالضجر
يصوّبون نحو ماء البحر، ماء قلوبنا الأجاج،
عبر مؤشر التصويب، متظاهرين بالذكاء
متظاهرين بالفهم
بمساعدة لوحة تحكّم في تل أبيب
تقرّب وتكبّر صور أحشائنا
تراقبنا.. تطاردنا
إلى أن تنتهي نوبة حراستهم.
■ ■ ■
وقف إطلاق نار
حين ينتهي كل شيء
حين تصبح كل المباني حطاماً
وتذهب كل الجثث مع الريح
مثلما يذهب الرماد
وتعود كل الهياكل العظمية
إلى حيث تنتمي
وتتصادى
كل التمزّقات الجريئة التي تصمّ الآذان
في السماء
حتى الموت
وتشرق الشمس في الأعالي
بصمت
من دون أي "أعمدة سحاب"
تلوِّث أوائل النهار
من دون توهجات خادعة
وبالونات متعطشة للدم..
هل ستجدينني؟
- سأكون في الانتظار.
■ ■ ■
بيت لاجئين
(مخيم الشاطئ - قطاع غزة)
الأم:
يتساقط المطرُ على السطح
يبقينا مستيقظين
ألواحُ الإسبست والزنك
تُحدث ضوضاءَ مزعجة
والمطرُ يدخل أيضاً
قطراته لا توقف دقّاتها
الجو في الصيف حارٌ جداً
والبردُ قارصٌ في الشتاء
لا ربيع هنا
لا ضوء حدث وأن أزعج نفسه وزارنا أبداً
لا شموع حتّى
يمكن أن تريني وجهي في المرآة.
ماء البحر هو ما نحصل عليه في حنفياتنا
ولا ماء للشرب
في منزلنا
لا أستطيع إلا غسل
أحلامي العقيمة بالماء المالح.
الجد:
أوه.. يا لذلك الزمن!
كنّا نمضي إلى البحر
ويمكننا الغرق فوق زورقنا
بسيول من الأسماك
تُبارك حياتنا يومياً
تمنحنا الثقة بالأعداد الوفيرة
حين يغسل البحر المقدّس أرضنا
ويجعلها مقدّسة أيضاً
حين كان الحب حبّاً
والأفق صديقنا.
عن ذكريات ذلك الزمن أبحث
فأجد لمحات
ألواناً مضمحلة
وجلداً فضياً يتحوّل إلى حبّارٍ رمادي
في عيون الأسماك المصادة المتعفنة
في سوق الصباح الباكر
ما كان مسجد امتناننا يوماً
دكّان وفرتنا
موضع طعام إفطارنا
وساحتنا الصغيرة
حيث استُبدِلت النداءات والروائح
بالشيكلات،
في ذلك الزمن أمكننا أن نسبح
مع أمواج الوعد بالحرية.
الإبن:
لن أركب ذلك الزورق مرة ثانية أبداً
أنا أصغر من أن أموت
أصغر من أن أشعر بوحشة البحر
إنه لأبي
وجدّي
وأخي الأكبر حتّى
هم أخذوا نصيبهم
من الوقت والحب
ناشرين شباك الرغبة
على مروج أكثر زرقة
غسلوا جلودهم
مع جراح مالحة
ممتعة متعة مؤلمة
لأولئك الذين اعتادوها.
رأيتُ البحرَ بنفسي
يتحوّل إلى أحمر قانياً
إسودّت الدنيا في عينيّ
حجبها
مجندون مصابون بالضجر
يراقبون الأفق
رأيتُ حواجز التفتيش بنفسي
طافية حيث اعتاد أبي السباحة عارياً
وتم اغتصابي ببندقية
بالتعاون مع المياه المتجمدة
لستُ على علاقة حب مع البحر
البحر خانني
البحر عرّاني
تحت تهديد السلاح.
إليك قوقعة من أجلكَ
قالوا أنتَ تسمع البحر
إن أنصت من قلب شيء لم يستخدم بعد
لستُ أسمع غير طلقات رصاص
لذا أفضّل الصمت
الذي لا لون له.
الأب:
أطفالي يرونني
أتضاءل في مقعدي
إنني أحتفظ بأفكاري
لنفسي
الشيء الوحيد
الذي لا يستطيعون رؤيته،
يمكنهم رؤية عينيّ
رماديتين مُرهَقتين
فانلتي البيضاء
وهي تَصفَرُّ مع الحياة المؤجلة
يمكنهم رؤية كآبتي
في علب حبوب الدواء الصغيرة
والسبات الطويل
والهلال الأحمر وهو يتقشّر
على صندوق الدواء
مصاغات زوجتي، سعادتي الزائفة،
أحبها
أصرخ.. فتصغي
أضربها .. فتصغي
هي تحمي أطفالنا
وددتُ لو آخذهم إلى مدينة الملاهي
إلى مكان ما .. حيث يمكننا
الشعور بالخوف مرة أخرى معاً
ونضحك
ويمسك بعضنا بعضاً،
بلا خشية من الغرق،
طافين في ما لا يسمّى
وسط ألعابٍ نارية كاريكاتورية
فوق غيوم بيضاء كثيفة
حيث يحدث كل شيء
ولا يُؤخذ شيء.
الابنة:
أدرس على ضوء شمعة
جيراننا قتلهم مولّد كهرباء
ماتوا خلال نومهم
بسلام
حالمين
نحن لا نتحمل تكلفة موتٍ
بمولد كهرباء
نحن نعيش على ضوء شمعة
ونموت على ضوء شمعة
فليكن.. الضوء هو الضوء
يمنحني قدر ما يستطيع
وبمودة
آخذ قدر ما أستطيع
الوقت متأخر إلا أنه صاخب
وأنا لن أنام مع ضوء شمعة
الوقت متأخر وأنا ناعسة
حتى الطائرات من دون طيّار تئـزّ فوقنا
هي أسلحة بيضاء
تعمل بالبطاريات
والوقود الذي نفتقر إليه
لتشغيل غسالتنا.
سأصبح مهندسة
تعلّق بأشجار المنازل
مصابيح صغيرة
توفير الطاقة يجعل الاستشهاد نافلاً
توفير الطاقة يمنع
انفجاراتٍ لا جدوى منها
في المنازل والحافلات
مقاومة منهَكة
أمكنة مغلقة
ما إن تُفتح تُصبح أصغر
أمكنة مغلقة
ابتلعت إخوتي وأبي
أمكنة مغلقة
أجبرت أمّي على تطبيبنا
لسنا أمواتاً بعد، ولكن صلاحيتنا منتهية
سأصبح مهندسة
تهدم الإسمنت القبيح
تبني جسوراً جديدة من بقايا دبابات
تسمح للريح بكنس
الغزاة وعبيدهم على حد سواء
تكسر دوائر تاريخ محلّي الصنع
بآلاتٍ تعمل بدقة وبلا مشاكل
انتظرْ
كما أنتظرُ أنا
وسترى
مثلما أرى.
■ ■ ■
ديكتاتور
(إلى أولئك الذين ما زالوا واقفين*)
جنازتك تعلنها الأجراسُ
سلفاً
ونعرف أنك جاهز
وتعرف أنت أنه حان وقتك
ترساناتك تنفد
على خلاف غضبنا
ومع ذلك سنسمح لك
أن تموت مثل رجل.
*غداً الـ 25 يناير، وهو الذكرى الثانية لاندلاع الثورة المصرية. المشروع الشعبي المستمر، الذي غيّر وجه المنطقة، والعالم. حتى بعد إعدام الفرعون، فإن أسس النظام باقية، وبينما يراوح بقية الطغاة في قلاعهم، في أماكن أخرى، مهما كان الثمن. إنّ التغيير أمرٌ حتميّ وعلى المرء فقط أن يختار الجانب الصحيح من التاريخ.
■ ■ ■
أشياء تأتي وتمضي عبر ميناء الأحزان
الأشياء التي تأتي وتمضي
تشبه مزهرية صينية جالسة على الحافة
على وشك أن تتهشم
تشبه المرآة التي سقطت البارحة
وأضحت اليوم شظايا في مزبلة
تشبه زجاجة البيرة التي انزلقت من يدي
محدثة فوضى على الرصيف
يمتص الإسفلتُ منها ما يستطيع
تاركاً البقية ليُداس عليها
تشبه علب تبغ خارج الحانة
تشبه ولاّعات بلاستيكية لا قيمة لها
تشبه عاديات ثمينة دُفنت في انهيار طيني
مع آخر مالكيها
تشبه متاحف أضرم فيها النار متمردون جهلة
معيدين كتابة تاريخ
بأشياء تأتي وتمضي
بقادمين لا فائدة منهم
ومغادرين لا أهمية لهم
من ميناء الأحزان.
■ ■ ■
من دونك سئمتُ الحياة
من دونك سئمتُ الحياة
لا تقولي هي ليست سوى بضعة أسابيع
مرّت منذ لقائنا
في الرواق
حين أحاطت بنا طيورٌ
وأضاءت شموعٌ
الممشى الذي سيلتقي فيه اثنان،
أنا وأنت..
لا تقولي لي أنه مرّ زمن أقل من ذلك حتى
منذ آخر مرة رأى فيها أحدنا الآخر
يسير على ضفاف
قنواتٍ حالمة
في حب أحدنا الآخر
فقدنا أصابعنا*
وعشت حياتي من دونك
أمضيت آباداً، زاحفاً
ضائعاً في أرض شائكة
أقلبُ كل حجرٍ في الغابة
بحثاً عن اسمك المراوغ
متتبعاً عطوراً مألوفة
ظننتها انقرضت
أردتك قبل أن أعرفك
وعرفتك قبل أن تقولي كلمة
أحببتك قبل أن أعرف الكلمات التي
ستوقعنا في شراكها
وتحرّرنا..
معجم رغبتنا السرّي الصغير
كُتب في أكثر من حياة سابقة
محتوياً تمائم لحياة تستمر إلى الأبد
وجرعاتِ حب لميتات يومية، وخلودٍ
قاطعَته مصادفةً
صحواتٌ فظة
فضاءٌ واسع
يصرخ باسمك.
* يقول مفسّروا الأحلام في الغرب أن فقدان الأصابع الذي يشاهده الإنسان في حلمه كناية عن فقدانه لعائلته.
■ ■ ■
بعيداً جداً
حيث أقرب مكان تريدين أن تكوني فيه
وحيث أبعد مدى يأخذنا المدُّ إليه
على زورقنا المتهالك
كلماتي تترجرجُ
في زجاجات صغيرة
تنتظر أن لا يلتقطها
أحد سواكِ.
■ ■ ■
منطقة فاصلة- حقول الموت في غزة
المرأة المسنّة
رأت شموساً تشرق وتغرب
بما يكفي ليتجعّد وجه الأرض،
لبشرتها ذاكرة أشجار
ورأسها اعتاد حمل وموازنة جرار الحليب الطازج
حين كانت الحقول ما تزال مفتوحة
حين كانت تلمس بقدميها الحافيتين أرض العائلة
والماشية ما تزال حية
ترعى عند الأفق.
وجهها اليوم
يشبه منزلها
مثقبٌ بالرصاص
ولكنها تقف ثابتة على أرضها
تحت الشمس
تُطعم الخراف عشباً جافاً وحبوباً مستوردة
وعينها على الأفق الخالي
حيث أزهرت الحياة ذات يوم
وحيث ستتجوّل روحها إلى الأبد.
كانت لنا هناك آبارٌ
تقذف الآن دماً في حقولنا المغتصبة
وحيث اعتدنا السير وصولاً إلى خط الأشجار
هنالك الآن صحراء قاسية مثل حدّ السكين
تُطعم في مستعمراتٍ محاطة بأسلاك شائكة
جسوماً أجنبية بأزياء مروعة
أتعرف!
كان بإمكاني محبتهم
أقسم أنني كنت أستطيع
وأناديهم بأسمائهم
وأعطيهم نعناعاً طرياً
وشيئاً من الجبن
حتى من وراء السياج الشائك
ولكن أيديهم كلها مشغولة
تتشبث ببنادقها الثقيلة
يكبلها الخوف.
تحيتهم لنا طلقات رصاص
من وراء ساتر دخاني
هم لا يفهمون فحسب
أنهم في بيتنا
وأننا نحن من نحييهم.
ومثلما ينفد رصاصهم
كذلك ينفد صبرنا.
*Karl Schembri، شاعر وروائي وصحافي وناشط في مجال العمل الإنساني، مالطي المولد والنشأة (1978) يكاد يتفرد بين أبناء جيله في موقفه النقدي من أهل جزيرته كما يقول مواطنه الكاتب ماريو آتزوباردي. تأتي في مقدمة أعماله مختارات شعرية نشرها تضامناً مع الشعب الفلسطيني خلال عدوان الاثنين وعشرين يوماً الصهيوني على غزة (2009) تحت عنوان " الدم نازل كما المطر" أو "الدم نيزل بش شتا" باللغة المالطية. بالإضافة إلى مجموعاته الشعرية، نشر روايتين، هما " تحت القبعة شمس" (2002) و "البيان القاتل" (2006)، وتعرضت الأخيرة لمنع بثها على شكل مسلسل إذاعي من محطة إذاعة جامعة مالطة، ولكن الفنان "براين ماسكات" عرضها على المسرح في العام 2008. تخرج شكمبري من قسم علم الاجتماع في جامعة مالطة، وعمل محرراً في صحيفة "مالطة اليوم" التي تصدر باللغة الانكليزية. إلى جانب نشره تحقيقات صحافية، كشف فيها عن تهريب الآثار العراقية عبر مالطة، والتفريط حتى بثروات متاحف بلده وسرقتها، وله تحقيقات لافتة للنظر عن مقاومة الفلسطينيين للاحتلال الصهيوني خلال إقامته في غزة وفي الأردن لاحقاً، وعمله مع عدد من المنظمات الإنسانية، مثل "أوكسفام" و"مجلس اللاجئين النرويجي".
**ترجمة: هناء صالح، مراجعة: محمد الأسعد