ولدتُ عام 1946، أي بعد عام واحد من نهاية الحرب العالمية الثانية، وقبل عامين من هزيمة العرب في حرب فلسطين. لا أؤرخ الآن لحياتي، ولكن أشير إلى أن السنوات الممتدة من احتلال الساحل الفلسطيني عام 1947 - 1948 إلى احتلال بغداد 2003 والمجازر اليومية في الحالتين تشكل كل سنوات عمري.
***
عندما غادرت طفولتي، وفتحت المنديل المعقود الذي تركته لي أُمي وعمتي، وجدت بداخله هزيمتهما، بكيت، ولكني بعد بكاء وتفكير أيضاً ألقيت بالمنديل وسرت، كنت غاضبة. عدت للكتابة عندما اصطدمت بالسؤال: ماذا لو أن الموت داهمني؟ ساعتها قرّرت إنني سأكتب كي أترك شيئاً في منديلي المعقود، وأيضاً لأنني تنبهت - وكنت في الرابعة والثلاثين من عمري -أن القبول بالنسبي أكثر حكمة من التعلّق بالمطلق، وأن الوقت حان للتحرر من ذلك الشعور بأن عليَّ أن آتي بما لم يأتِ به الأوائل أو أدير ظهري خوفًا وكبرياءً.
***
قلت إني أحب الكتابة لأني أحبها وأيضاً لأن الموت قريب، قلت إن الواقع يشعرني بالوحشة وإن الصمت يزيد وحشتي والبوح يفتح بابي فأذهب إلى الآخرين، أو يأتون إلي. وألمحت أنني أكتب لأنني منحازة (أعي العنصر الأيديولوجي فيما أكتب وأعتقد أنه دائما هناك في أية كتابة) ولكن لو سألتموني الآن هل تكتبين لكسب الآخرين إلى رؤيتك؟ سأجيب بلا تردد: ليس هذا سوى جزء من دوافعي، أكتب لأني أحب الكتابة وأحب الكتابة لأن الحياة تستوقفني، تدهشني، تشغلني، تستوعبني، تربكني، وتخيفني، وأنا مولعة بها.
***
أنا مدرّسة، أرى في رسائل التشاؤم فعلاً غير أخلاقي. قلت ذات مرة إن كل كتاباتي الروائية محاولة للتعامل مع الهزيمة. قلت: الكتابة محاولة لاستعادة إرادة مَنْفِيَّة. أنهيت رواية "ثلاثية غرناطة" بعبارة "لا وحشة في قبر مريمة" وعلقت في محاضرة لي على ذلك قائلة: ثلاثية غرناطة لها طعم المراثي، يسري فيها خوف امرأة من القرن العشرين دارت عليها وعلى جيلها الدوائر، فشهدت نهايات حقبة من التاريخ هو تاريخها. ولكن التاريخ لا يعرف الخوف، إنه صاحب حيلة ودهاء، له مساريُه وديامسُه وجاريه، لا شيء يضيع، هكذا أعتقد. ولذلك أفهم للآن لماذا تنتهي روايتي بوصف قبر مريمة.
***
لم أعو عواء الملك في العاصفة. كنت مجرد ناظر ينتهي من عمل ويعود إلى منزله ليتابع العاصفة. يشاهد كرات اللهب والدخان على شاشته، ويسمع دمدمة القذائف لا الريح، وسقوط القنابل الذكية والأقل ذكاءً على شط العرب. يلتف بعباءته الصوفية كأنها كفن.. (ولكنني) عشت، أقصد استيقظت في الصباح وقلت صباح الخير، وارتديت ملابسي، اليوم وغداً والغد الذي تلاه، يوماً بعد يوم بعد يوم، كل يوم، حتى تلقفتني عاصفة تالية وعاصفة آخرى بعدها. شاهدت التوابيت مصفوفة صفاً طويلاً لا تحيط به عدسة المصور إلا عن بعد، وآلاف الرجال المحتشدين في الملعب البلدي يقيمون صلاة الجنازة، يتحرك الموكب في قيظ غريب على يوم ربيعي. الأكفان محمولة على أكتف الرجال، يقطعون الطريق من الملعب الكبير إلى مقبرة مستطيلات محفورة في عمق الأرض، متلاصقة، متطابقة، متساندة، وتنتظر(...) فبهتُّ: لن أرى مشهداً أكثر حزناً وجنوناً. ولكني كثيراً ما أخطئ التقدير، عشت لأرى جثثاً في أدراج ثلاجة، في كل درج جثتين، ومسيرات من أعلام وبشر يحملون جثامين جديدة كل يوم، وسيارات نقل كبيرة كتلك التي يكتظ على ظهرها عمال الترحيل أو الأطفال الذاهبين لجني القطن، أو حتى جنود الأمن بعد تلقيهم الأمر بالتوجه لقمع مظاهرة، تصطف في كل سيارة نقل منها الأكفان، كفن لطق كفن، أبيض لصق أبيض. أين لير من تلك العواصف؟ هل تبادلني أيها الملك المسرحي حياة بحياة؟ أعطني جحود ابنتيك، وخذ بحر البقر وشاتيلا والعامرية وقانا وجنين. لا لن أعطيها لك، هذه حكايتي! اذهب بعيداً يا ملك المسرح، لم تعرف من الألم شيئًا، والمعلق على الصليب حكاية من إنتاجنا المحلي.
***
هل أحكي حياتي حقًّا أم أقفز عنها؟ وهل يمكن أن يحكي شخص ما حياته فيتمكن من استحضار كل تفاصيلها؟ قد يكون الأمر أقرب إلى الهبوط إلى منجم في باطن الأرض، منجم لا بد من حفره أولاً قبل التمكن من النزول إليه. وهل بمقدور فرد مهما بلغ من قوة ونشاط أن يحفر بيديه المفردتين منجماً؟! المهمة شاقة تتولّاها أيدٍ كثيرة وعقول وروافع وجرافات ومعاول للحفر وأخشاب وحدائد ومصاعد تهبط إلى الباطن تحت أو تُعيد من نزلت به إلى ظاهر الأرض. منجم عجيب غريب يتعين عليك النزول إليه مفرداً لأنه لا يخصّ سواك وإن وجدت فيه ما يخصهم، ثم إنه قد يسقط فجاة على رأسك، يكسرها أو يطمرك كاملاً بركامه. وربما كان الأمر أشبه بصرّة لا منجم، ولكن هل يمكن أن يصرّ شخص ما حكايته في منديل ويمد به يده إلى الآخرين قائلاً: هذه حكايتي، نصيبي من الدنيا؟ كيف تَنْقُلُ صُرَّة بحجم الكف أو صُرَّة كبيرة كتلك التي تحملها النسوة على رؤوسهن وهنّ يشردن شرقًا عبر الجسر، حكاية عمر بكامله، مشتبكٍ بطبيعة الحال مع أعمار الآخرين.
***
أكتب لأني أحب الكتابة، أقصد أنني أحبها بشكل يجعل سؤال "لماذا" يبدو غريباً وغير مفهوم. ومع ذلك فأنا أيضاً أشعر بالخوف من الموت الذي يتربص، وما أعنيه هنا ليس فقط الموت في نهاية المطاف ولكن أيضا الموت بأقنعته العديدة في الأركان والزوايا، في البيت والشارع والمدرسة، أعني الوأد واغتيال الإمكانية. أنا امرأة عربية ومواطن من العالم الثالث وتراثي في الحالتين تراث الموؤودة، أعي هذه الحقيقة حتى العظم مني وأخافها إلى حد الكتابة عن نفسي وعن آخرين أشعر أنني مثلهم أو أنهم مثلي.
***
هل كنت أقطع الشوارع ركضاً أهشُّ الموت بعيداً كأنه ذباب، أم أن الحواس تبلّدت من كثرة ما انفجر من ألغام؟ لو ركضت مع كل خبر عن لغم في مكان لي فيه أصحاب أو معارف لقضيت يومي كله أركض في اتجاهات متعاكسة.
* مقاطع مستلة من نصوص رضوى عاشور