يبيّن بلقاسم، كيف يتحوّل فعل القراءة في ممارسة كيليطو إلى فعلٍ منتج للأدب، بنصوص تستند إلى فعل القراءة الخلّاق لنصوص الآخرين. ويتجلّى ذلك بوضوح في قدرة كيليطو على تحويل المفاهيم التي يستمدّها من القراءة إلى حكايات.
يتشارك مع كيليطو في هذه الميزة التفاعلية أدباء لعل أشهرهم القاص الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899- 1986)، بوصفه واحداً من أهم من جسّدوا ممارسة الكتابة بما هي قراءة في كتابات الآخرين. فقد تحوّل الأدب في منجز بورخيس، إلى قراءة في النصوص الغيرية وفي القضايا الفلسفية والميتافيزيقية، كما تجلّى ذلك في مجموعته القصصية الأولى.
في الخطوة التالية، يطلع بلقاسم القارئ على المميّزات الأساسية التي استخلصها من رحلته البحثية في أعمال كيليطو وأسلوبه، ويجملها في النقاط الأساسية التالية: التفكيك، والعمق، والمرح، والبينية.
عن العنصر الأول: التفكيك، يكتب بلقاسم: "أعمال كيليطو لا تنفكّ تُرسي، إنجازاً لا تصريحاً، قوّة الأدب المعرفية والتفكيكية، فهي تنهض على خلخلة المعنى الجاهز والنأي بالمفهومات عن حمولتها المعتادة. في هذه الخلخلة، تتكشّف دروب أخرى للتأويل، وتتجدّد العلاقة بالقديم وبالفكر وباللغة، وكأن هذه الأعمال، بتوجيه من هذا النزوع التفكيكي، اختارت الارتياب مكاناً لإنتاج المعنى".
أما العمق، فيختاره بلقاسم كميزة في أعمال صاحب "أنبئوني بالرؤيا"، إذ أنّه يراه شغوفاً به. والعمق هنا ليس معطىً يمكن العثور عليه متخفياً، بل هو آليات وشبكة من الحيل، تقود بلعبها الخلّاق إلى جهات مجهولة، وتتّسم بالذاتية الخاصة للكاتب.
يؤكد بلقاسم على أنّ لأعمال كيليطو وشائج متينة بالمرح، ويصفها بأنها أعمال مولدة للمعرفة الأدبية المرحة، لأن المعنى يتخلّق فيها داخل المتعة الأدبية، التي تكتسي بنفس ساخر لا يفارقها. في هذا الصدد يقول: "إنها كتابة مرحة تنتزع الابتسام حتى من أشد القرّاء تجهّماً.
كتابة تعارض التجهّم، بل تقوّضه، وتتخفّى وراء تواضع ماكر، يسخر من كل ادعاء فجّ، ومن القراءات المتجهّمة، ومن وهم الاستحواذ على معنى، ومن البديهي وآليات تثبيته.
ينتقل بلقاسم إلى توصيف مفهوم آخر غاية في الأهمية، لأنه كفيل بأن يفتح الأفق واسعاً على قراءة وتأويل أعمال كيليطو. إذ أنّه يرى أن سمة "البينية" راسخة في منجزه، ويقدّم تجلياتها المتعدّدة والمتشعبة عبر أربعة محاور أساسية: الإقامة بين الفكر والأدب، والإقامة بين الأسطورة والحكاية، والإقامة بين الكلّي والجزئي، وأخيراً الإقامة بين لغتين؛ العربية والفرنسية.
إنّ التفاعل بين الفكري والأدبي سمة أساسية في أعمال كيليطو، إذ أنّه يقوم بتأويل النصوص الأدبية بناء على خلفية فكرية. في المقابل، تستند موضوعات الخيال الأدبي لديه إلى مرجعيات فكرية. بما يجعل الفكر يتولّد من متعة الأدب ومن قوّة المعرفة الأدبية، التي غالباً ما شدّد كيليطو على حيويتها، كقوله: "بدون الأدب، ما الذي يمكن أن نعرفه عن العالم؟".
ولعلّ المثال الأشد توضيحاً لهذا التفسير البيني عند كيليطو، معالجته لما يُعرف بجدلية العلاقة بين الأنا والآخر، التي لا تنفكّ تعود في كتابته، سواء انطلاقاً من موضوع الترجمة، أو موضوع التأريخ الهجري والميلادي، أو من أثر الآخر في تجديد نظرة العرب لأدبهم.
وعن الإقامة بين الأسطورة والحكاية، يكتب بلقاسم موضّحاً: "كل شيء في الحكي عند كيليطو يغدو، وفق الإقامة بين الأسطورة والحكاية، تجسيداً لأساطير غابرة كما لو أن الحياة تجسيد لأدوار سابقة ولأشكال سحيقة. هكذا تغدو القراءة التي تنهض كتابة كيليطو عليها، رصداً صامتاً لظلال السحيق وامتداده في اللاحق، رصداً، مثلاً لظلال أوليس وبينلوب في مقامة من مقامات الحريري، ولظلال الأوديسا في ألف ليلة وليلة، وغيرها من الظلال التي تجعل الحكي مشدوداً إلى السحيق والغابر".
وعن العلاقة بين الكلّي والجزئي في أعماله، يقول بلقاسم: "انسجاماً مع أسلوب كيليطو في الحفر في الأصول والانشغال بالأساطير السحيقة، ظلّ رهان المنجز الخاص به قائماً على الكشف عن الكليات المضمرة في الجزئيات. فتآويل عبد الفتاح كيليطو تتوجّه في الغالب العامّ إلى الكليّات ولكن عبر الجزئيات، فيجعل من التفصيل الصغير مأوى كلياتٍ وتكثيفاً لمظاهر نسقية"، ويرى أن كتاباته نهضت على تفاصيل صغرى، ولكن غاية تحويلها منجماً لأنساق كبرى، وهو ما سيجعل كتابة كيليطو مقيمة بين الجزئي والكلي، ويجعلها دراسات دقيقة للأنساق، عبر التفاصيل.
الازدواجية بين العربية والفرنسية موضوعة تتكرّر في أعمال كيليطو، وخصوصاً في كتابيه "الأدب والتناسخ (2008)، و"شرفة ابن رشد" (2009). في هذين الكتابين يبتكر الكاتب الحكايات، كتنويعات للتفكّر في موضوعة الإقامة بين لغتين، لكن ليس بمعنى الصراع والتناحر بين كل منهما، بل بمعنى التفاعل، التأثير والتأثر.
يقول بلقاسم: "يقيم كيليطو بين لغتين، لا بمعنى أنه يكتب تارة بالعربية وأخرى بالفرنسية، فالأمر أشد تعقيداً من هذا التبسيط. إن هذه الإقامة البينية تجعل اللغتين تتبادلان في منجزه التجاذب، وتتحاوران وتتصارعان حتى عندما تتم الكتابة بأحدهما. الكتابة بالعربية لا تبعد كيليطو عن اللغة الفرنسية، بل تؤمّن سريانها وامتداد ظلالها، مثلما هي الحال تماماً في الوجهة المعكوسة... أبعد من ذلك، فالكتابة بإحدى اللغتين لا تكون محسومة لديه في البدء، بل التقدّم في بناء النص هو ما يحسم، أمر اللغة التي سينتهي إليها البناء"، هذا ما يصرح به كيليطو نفسه، فيروي أن مرّات عديدة ابتدأ النص عنده بالفرنسية قبل أن يعي أن مسار اكتماله يتطلب انتقاله إلى العربية، أو العكس.
في الختام، يصف بلقاسم الكتاب والخصوصية التي يقابلها الباحث عند التعامل مع أعمال كيليطو، فيكتب: "إن هذا الكتاب غالباً ما يعرض للقضية الواحدة مرات عديدة من أمكنة متباينة، لأن تتبّع قضية ما في كتابة عبد الفتاح كيليطو وقراءته، يكشف أنها لا تنفك تعاود الظهور بغير الصورة التي بدت عليها في مكان آخر [...] كما لو أن الأمر يتعلّق باقتفاء وجه يتلوّن بالمرايا التي عليها يتبدى أو فيها يتخفى، سيان".