لا يأتي المؤرخ البريطاني روبرت إيروين على ذكر المستشرق الألماني هيلموت ريتر إلا في سطر عابر من مقدمته لكتاب "حكايات العجائب وأخبار الغرائب". صدرت النسخة الإنجليزية الأولى من هذا الكتاب أخيراً (كلاسيكيات بنغوين) بترجمة مالكوم سي ليونز وتقديم إيروين. يضم المجلد 18 قصة تعود إلى القرن العاشر، وكان أول مقدّميه إلى لغة أوروبية، الألمانية، ريتر نفسه، بعد أن عثر عليه في مكتبة إسطنبول سنة 1933.
ليس مستغرباً، إذاً، أن يتجاهل إيروين فضل ريتر وأثره في نقل هذه الحكايات وغيرها، فقد كان مشغولاً في مقدمته بمبالغاته وتصوّراته عن الجن والمخلوقات العجيبة في القصّ العربي وفي الحياة اليومية، فلا يتردّد في القول إنه صادف جنياً بنفسه على هيئة قط حين كان في الجزائر.
لا يقول إيروين كيف التقى هذا الجني، بل يأتي على ذكره أيضاً بشكل عابر مثلما فعل مع ريتر. يخبر المؤرخ الكبير القارئ الإنجليزي أنه يعرف عمّا يتحدث وأن مصادفة جني على الطريق هو أمر عادي في الشرق العجيب!
طرافة إيروين هذه تذكّر بكتابه الشهير "الشبق إلى المعرفة.. المستشرقون وأعداؤهم"، الذي خصصه للانقضاض على كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد ووصفه بـ "الدجل الخبيث" ومحالة تصويره كبحث كتبه شخص بنوايا سياسية فاقعة. بالطبع لم ينجح إيروين، الذي يمتلك قوىً خارقة ترى الجن، في هدم طوبة واحدة مما وضع سعيد، رغم موسوعية كتابه وزخمه اللذين كرّسهما في محاولته المستميتة لتبرئة المستشرقين من الإمبريالية.
وبالعودة إلى "حكايات العجائب وأخبار الغرائب"، يبدو أن إيروين ليس المستشرق الوحيد في مقدمته (وصفتها إحدى الصحافيات العربيات بأنها مشوّقة!)، بل إن هناك طبقة من الصحافيين المستشرقين يجعلهم جهلهم والمنابر المستعدة لنشر هرائهم الجاهز للملايين أكثر خطورة من باحث أكاديمي مهما اختلفنا معه في الرأي.
ستجد في مراجعات هذا الكتاب مثلاً خيراً وفيراً من حكمة هؤلاء. ستتحسر إحداهن فتقول للأسف إن صورة المرأة في القصص العربية شريرة أو ضعيفة، أو إن القصص مبنية على الانتقام أو القتل أو الشهوة، أو إن طريق البطل العربي للوصول إلى الحبيبة معبّد بالجثث، ولنا أن نتصور قائمة التحليلات النفسية لبنية الحكاية العربية.
المفارقة أن الكتاب يضم حكايات مشتركة في التراث العالمي، مثل قصة الزوجة التي يسمح لها زوجها بفتح كل الأبواب إلا باباً واحداً، والموجودة في التراث الأوروبي والياباني والجنوب أميركي. بل إن الغرائبية وصورة المرأة الساحرة الشريرة أو الأميرة أو المسكينة، هي مشتركات في تراث القص الإنساني وما زالت تقوم عليها الحكايات إلى اليوم (السينما الأميركية مثالاً).
يعيش المستشرق الجديد والأهوج "الصحافي" في بيت فيه أربعون غرفة، وفي الحقيقة لم يمنعه أحد من دخول أي منها، لكنه مصرّ على أن ثمة رؤوساً معلقة وسبايا خلف كل باب، تعينه في ذلك الرؤوس التي تعلّقها "داعش" على مشجب العالم كل يوم.