تقف شابة ببدلة رجالية رمادية، وقصة شعر "غارسون"، مظهرها قد يجعل المتفرج يفكر في هويتها الجنسية، الأمر نفسه حدث قبلاً مع البترونة، امرأة ببُنية رجل وصوت خشن أجش يلقي الأوامر ويتحكم بالجمهور القادم لمشاهدة عرض "البيت الكبير" للمخرجة المصرية ليلى سليمان، والذي قُدّم ضمن تظاهرة "أشغال داخلية" التي انتهت قبل أيام.
نحن إذن في شارع "عبد الله قش"، وهو اسم لأحد الأولياء الذي يطلق على حي عاملات الجنس المرخصات قانونياً في تونس. الشارع أو "النهج" باللهجة التونسية، هو واحد من بين أربعة أحياء قانونية تعمل في تقديم خدمات جنسية مرخصة، كان هناك 44 حياً مشابهاً، لكن تمّ إغلاقها منذ ثورة 2011، ولم يتبق سوى هذه الأربعة. من هنا، فإن تناولها على أي نحو كان، يعني مقاربة حقوق الإنسان والمرأة والعمالة في آن، هذا هو الدافع خلف اشتغال المخرجة المصرية على الحي التونسي، توضح في حديثها لـ "العربي الجديد"، وتضيف إليه "هذا الشارع هو مايكرو كوزموس "عالم مصغّر" عن علاقة الدولة بالإنسان ولكن بشكل مكثف".
قد يبدو ظاهرياً أن حيا كهذا هو بلا ممنوعات، لكن وبمجرد أن تسأل المؤديّة التونسية: "ما علاقة الدولة بالبدن؟" (سؤال مفتوح بلا إجابة) تقودنا إلى قائمة الممنوعات والكواليس التي تحدث فيها تفاصيل هذه المهنة، وتبدأ في تقديم أرشيف حول تاريخها في تونس، هو الأول من نوعه، إذ لم يكترث كثيرون لتوثيق ودراسة أحوال العمل في الجنس منذ تقنينه حتى اليوم، وكأنها مهنة ليست منبوذة اجتماعياً وثقافياً فقط بل فنياً وبحثياً.
قائمة الممنوعات تمنع العمل أيام الجُمع، وتمنع الفتيات من الخروج لأي غرض كان إلا بعد موافقة رسمية، تحظر عليهن الجلوس في المقاهي أو الأماكن العامة، تمنع الخمور، وتمنع دخول النساء إلى الحي. لكن سليمان تمكّنت من الدخول بمساعدة مشروع "دريم ستي"، المموّل والمنظم، وحصلت على تراخيص استثنائية.
قامت سليمان ببناء النظام والمنظومة التي تعمل فيها بنات الهوى في حي عبد الله قش في تونس، لتعالج أزمة الغياب المفاجئ أو "اختفاء" من كن وافقن على المشاركة بأنفسهن في "البيت الكبير". "في غياب الفتيات رأينا أن نبني النظام الذي يعملن من خلاله، لذلك تحكمنا مثلاً بطريقة الدخول والخروج بل وإلى أي غرفة يدخل المتفرج، وأي فيديو يشاهد، فمن بين خمسة فيديوهات لن يتاح لكل متفرج سوى أن يشاهد اثنين، ولكي يشاهد ما تبقى عليه أن يأتي في العرض الذي يليه، إذ يقدّم العرض كل ساعة لفترة محددة".
لن تستطيع الدخول إلى الغرف الداخلية من "البيت الكبير" قبل أن تقابل البترونة في ممر ضيق، سترمقك من رأسك حتى أخمص قدميك قبل أن تعطيك قطعة معدنية مرقمة تحفظ بها دورك، كما لو كنت زبوناً تطلب خدمة عاملات الجنس في الداخل.
التفاصيل كثيرة في العرض، هناك تسجيلات الفيديو التي تقدم عاملات الجنس من خلالها شهاداتهن، هناك مجسم للحي وعرض لتاريخه وقوانينه تقدّم عند الدخول، هناك غرف الفتيات التي نفّذتها المخرجة لتكون صورة طبق الأصل عن تلك الموجودة في "عبد الله قش، هناك سيدة جالسة في إحدى الغرف لن تميز إن كانت عاملة نظافة أم جنس أم ماذا، في أواسط العمر، ترتدي "قمطة" على رأسها، وتلبس ملابس قاتمة ولا توحي بأي علامة عن الشخصية.
هناك أيضاً "الصانع" وهو الشاب المثلي "كاريوكا" باللهجة التونسية، المسؤول عن طلبات الفتيات من الخارج، كالسجائر وتهريب البيرا أو إحضار الطعام، فهن ممنوعات من الخروج. هذا الرجل هو الشخصية الوحيدة المتعاطفة مع هذه الفتيات والقريب منهن والذي وجد نفسه في المكان الذي تنبذ فيه هذه الفتيات، تبيّن سليمان "الالتقاء بالصانع كان صدفة في البداية، ثم أصبح وجوده جزءاً من العمل الذي يحاول أيضاً أن يكسر التصنيف الاجتماعي الصارم للجندر، حتى البترونة هي في الحقيقة رجل في ثياب امرأة".
رغم كثرة عناصر العمل هذه، ثمة شيء ناقص، ربما تكون الكثرة نفسها "نقصاناً"، تصر سليمان على أن المشكلة في "غياب الفتيات"، لا شك أن مقابلة "مومس" في عرض أدائي هو أمر مثير وكان ليضيف على واقعية "البيت الكبير" وأثره الشيء الكثير. لكن ربما تكون محاولة تعويض هذا الغياب هي التي دفعت المخرجة إلى حشد العناصر دون أن نشعر أن أياً منها ناضح تماماً أو أنه في مكانه ولحظته بالضبط، أو أنه يقول أشياء كثيرة ومتتالية في وقت ومكان ضيق.
ربما تكون فكرة الكثرة والنقصان مقصودة أيضاً، إذا ربطناها بأننا سنرمي كل ما لدينا من كليشيهات حول عالم بنات الهوى والليل وغرفهن، لأن ما سنراه هو العكس تماماً. الجنس هنا ليس متعة باذخة، لا يوجد ألعاب ولا حيل، كل ممارسة لن تستغرق أكثر من ربع ساعة وربما أقل، وهذا كثير ربما في يوم تعمل فيه كل فتاة قرابة 18 ساعة.
رغم صغر سنها، قامت سليمان (1981) بإخراج عدد كبير من العروض، من بينها "العراق محاصراً" و"ناعومي والاس" و"منتجات مصرية" و"في الخدمة" و"صحوة ربيع في التوك توك" و"دروس في الثورة"، و"هوى الحرية" وسلسلة من خمسة أعمال حملت اسم "لا وقت للفن" و"هنا وهناك وفي كل مكان".
منذ بداياتها اختارت مواضيع تضع المتفرج في خانة "اليك"، تحرجه، تدفعه للتفتيش في القيم والأحكام التي يحملها والمنظومة الاجتماعية والسياسية التي ينتمي إليها.
تعمل حالياً على مشروع جمعت فيه محاضر الاغتصاب التي كانت تتقدم بها النساء في القرن التاسع عشر، عمل تقارن فيه سليمان، ضمنياً، بين المرأة المغتصبة التي كانت تتقدّم بشكوى بمساعدة أهلها وشهادتهم معها، وسردها لتفاصيل دقيقة عن حادثة الانتهاك التي تعرضت لها، وبين المرأة المصرية الآن التي تعرضت للكثير من أحداث التحرش والاغتصاب والإساءة الجنسية، منذ أحداث يناير 2011، وتهربت كثيرات منهن من تقديم شكوى عادية أو الإفصاح عن حادثة تعرضهن للاغتصاب.
تسألها "هل تعتبرين أنك مخرجة مسرحية نسوية"؟ فتجيب: "كنت حين أسأل سابقاً أقول لا، أما الآن وقد بلغت 35 وقرأت ما يكفي عن النسوية، ولم أعد أخشى تصنيف أعمالي أو وضعها في دائرة حكم مسبق عليها، أستطيع أن أقول نعم أنا نسوية".
اقرأ أيضاً: ربيع مروّة.. عبور عكسي إلى ميونيخ 72