تشتغل الباحثة التونسية فوزية ضيف الله، على الفلسفة المعاصرة ضمن مجالي التأويلية والفينومنولوجيا (علم الظواهر). في بداية حديثها إلى "العربي الجديد" تعرّف ضيف الله هذين المصطلحين الأساسيين من أجل فهم ما جاء في كتابها الصادر مؤخراً "كلمات نيتشه الأساسية ضمن القراءة الهيدغرية".
تقول أن التأويلية هي "فن قراءة النصوص، هي فن الفهم أساساً، إذ تعلمنا كيف نقرأ نصاً أو كيف نتأوّله. هذه هي التأويلية في معناها المبسّط. أما مصطلح "التأويلية" أو الهيرمينوطيقا فهو مصطلح قديم بدأ استخدامه في دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسّر لفهم النص الديني".
وبخصوص الظاهراتية أو الفينومينولوجيا، تقول ضيف الله "هي مدرسة تعتمد على الخبرة الحدسية للظواهر كنقطة بداية (أي ما تمثله هذه الظاهرة لدى تجربة الوعي) ثم تنطلق من هذه التجربة تحليل الظاهرة واستكشاف أساس معرفتنا بها. غير أنها لا تدعي التوصل لحقيقة مطلقة، بل تراهن على فهم نمط حضور الإنسان في العالم، وهي "علم بالظواهر"، يهتمّ بالمعطيات الأولى والمباشرة للوعي، إنه اختصاص يتساءل كيف تتجلى الظاهرة من جهة كونها معطى حيوي في العالم المعيش ضمن وعينا بها؟".
يقدّم إصدار الباحثة التونسية الجديد التأويلية في إطار غربي، بالرغم من أن غالبية تطبيقات هذا الاختصاص الفلسفي في العالم العربي تكاد تقتصر على النص الديني.
توضّح ضيف الله هذه الظاهرة: "في تراثنا، لدينا ثنائية التفسير والتأويل. عادة ما يقع الاعتماد على التفسير، ونلتجأ إلى التأويل حين يكون التفسير غير قادر على فهم المعنى مثل الحالات التي تسمى بـ المتشابه داخل النص القرآني في مقابل المحكم، المتشابه هو موضوع التأويل".
عن انشغالاتها في هذا المجال تقول: "أهتم بفلسفة بول ريكور وهانز جورج غادامير". ومن أبرز أبحاثها في هذا المجال: "مفهوم المعاصرة الجمالية عند غادامير" و"ريكور قارئاً رولز" و"المنعطف الهيرمنوطيقي في الفينومينولوجيا عند ريكور" حيث تبيّن فيه كيف استطاع الفيلسوف الفرنسي تطعيم شجرة الفينومينولوجيا بغصن الهيرمينوطيقا لفهم معضلات الفلسفة المعاصرة.
يمثل نيتشه موضوعاً مطروقاً بقوة في ميدان التأويلية، إذ حظي بقراءات متعدّدة، من قبل عدة مفكرين مثل مارتن هايدغر وجيل جيل دولوز وميشال فوكو وجاك دريدا وكارل ياسبرس وجياني فاتيمو.
سألناها نفس السؤال الذي طرحته في مقدّمة كتابها "كيف نقرأ نيتشه؟"، فتجيب: "كل قراءة هي مشكل، سواء قراءة فيلسوف أو نص أو تراث. لأن القراءة كما عبّر عن ذلك ريكور في كتاب "صراع التأويلات" تجد نفسها ضمن قراءات متضاربة، أي إنها تتعرض منذ البدء إلى ما يسمى بـ "الدور الهرمينوطيقي"".
تؤكد ضيف الله أنّ كتابها "لا يجبر القارئ على توخّي توجّه ما في القراءة، بل هو توضيح للفهم الذي تخيّره هايدغر ورآه مناسباً حين تناول نيتشه بالدرس. علينا أن لا نحكم عن القراءة الهايدغرية انطلاقاً من أحكام مسبقة منذ البداية. إذ ينبغي أن ننخرط في القراءة إلى آخرها".
تضيف: "عندما عمد هايدغر إلى قراءة نيتشه، سعى إلى تبيّن ما هو أساسي في فلسفته وتهيّأ إلى اكتشاف هذه المعاني الواردة ضمن ما سيُعرّفه بـ "الكلمات الأساسية".
يسوقنا هذا الحديث إلى التساؤل عن دلالة العنوان الذي اختارته لعملها؛ "كلمات نيتشه الأساسية"، تقول "تخيّرت مصطلح "الكلمة" على حساب "اللفظ" أو "المفهوم" لأسباب متعلقة باختيارات كل من هايدغر ونيتشه". فـ"الكلمة"، بحسب المؤلفة، "مفعمة بالشعري، وممتلئة بما هو فكري".
أما عن دلالة "الكلمة الأساسية" فتقول: "هي تلك البديهية، حتى صارت غير مدركة"، وهي هنا تورد نصاً من درس لمحمد محجوب يفسّر فيه الكلمات الأساسية بأنها تلك التي "أشبعها القصد والبصر والنظر، حتى باتت مطروحة في الطريق لا يقصدها قصد ولا يلحظها بصر. هي المضغة على كل لسان".
تتابع ضيف الله: "معنى ذلك أن الكلمات الأساسية النيتشوية ارتوت بالمعاني والمقاصد إلى أن أصبحت متروكة، فتظهر لنا على بداهتها، لذلك لا يحرّكنا الفضول لاكتشافها. لكن تغيب عنا العبارات إذا حاولنا التحدّث عنها. فما هو أساسي فيها صار مألوفاً إلى حد الابتذال. وما هو وجيه فيها صار معروفاً إلى درجة النسيان".
هذه الكلمات الأساسية، بحسب ضيف الله، على قدر أساسيتها تصبح غير قابلة لأن تُدرك أو أن تُفهم. وهي تورد خمس كلمات أساسية استخرجها هايدغر من نيتشه هي؛ "إرادة الاقتدار والعود الأبدي والعدمية والإنسان الأرقى والعدل".
سألناها "لماذا تخيرّت هايدغر دون غيره قارئاً لنيتشه؟" تجيب "هايدغر ونيتشه هو التقاء فيلسوفين عظيمين تجمعهما قرابة غريبة. أولاً، قرأ هايدغر نيتشه منذ أن كان طالباً (1910-1914) وتقاسم معه الكثير من الأفكار مثل موت الإله والعدمية وتجاوز الميتافيزيقا. ثانيا، لا يمكن لأي باحث حول نيتشه أن يتجاهل القراءة الهايدغرية لنيتشه، إذ فَرضت قراءته هيمنتها على القراءات الأخرى وذلك راجع إلى أسباب ثلاثة؛ هي غزارة الإنتاج الهايدغري حول نيتشه، والذي يمتد من 1936 إلى 1955. كما تمثل قراءة هايدغر محاسبة للقراءات الإيديولوجية والسياسية لنيتشه. إضافة إلى المتانة التأويلية التي نجدها في أثره".
تشير المؤلّفة إلى أنها تساءلت في كتابها '"هل استوفى فعلاً هايدغر نيتشه؟ أي ما الذي أفلت منه؟" غير أنها تكشف بأن الإجابة عن هذا السؤال لم تضمّنها في كتابها الأول، وقد شرعت في الاشتغال عليها في بحوثها الجديدة.
ترى ضيف الله أنه "لم توجد بعد قراءة عربية مباشرة لنيتشه بمعنى القراءة التي تزاحم القراءات المذكورة، فلا يمكننا الحديث اليوم سوى عن شروح".
لعل أحد العوائق التي تحول دون هذه القراءة هي الترجمة. تفسّر الباحثة التونسية ذلك بأن "أسلوب نيتشه الفريد يجعل من نقله متعسّراً"، وهي تشير إلى أن جل الترجمات المتداولة تكشف عن عدم اطلاع المترجمين على الأصل الألماني، وإذا توفر ذلك تغيب الخلفيات الفلسفية.
تذكر ضيف الله محاولة المترجم التونسي علي مصباح في عمليْ "هكذا تحدّث زرادشت" و"هذا هو الإنسان"، وهي ترجمة رغم أنها تنطلق من استعداد ذاتي للاشتغال على الأصل الألماني إلا أنها تقع في جملة من الإشكاليات الفلسفية. في المقابل، تذكر ترجمة فتحي المسكيني لكتاب "جينيالوجيا الأخلاق" كواحدة من الترجمات القليلة التي يمكن اعتمادها أكاديمياً.
من خلال اطلاعها على الأصل الألماني للأثر النيتشوي، تجد ضيف الله أن النص المنقول إلى العربية يخسر الكثير من العمق في المعنى. تقول "ألاحظ أن المعنى يتدفّق في أصله الألماني بمرونة، في حين أنه إذا ترجم إلى العربية، وحتى إلى الفرنسية، يصبح متعثراً ومتلعثماً".
تكشف ضيف الله أنها تطمح إلى ترجمة نيتشه، ولكن ليس قبل التعمّق في اللغة الألمانية. علماً أن مشروع كتابها الثاني سيكون أيضاً عن نيتشه، حيث تطرح سؤالاً جديداً "كيف نبحث عن نيتشه ضمن تعدّد القراءات؟"، بعبارة أخرى "من هو نيتشه في خضم هذا القراءات المتصارعة؟".