انشغلت دراسات المفكّر الألماني الأمريكي إرنست كاسيرر (1874 – 1945) بالعلاقة الجدلية بين السياسة والأخلاق من خلال تشكّل بنى السلطة ومتغيّراتها، وكان أحد أبرز المثقفين الذين هاجروا من أوروبا إلى الولايات المتحدة بين الحربين العالميتيْن بسبب معارضته للأفكار المتطرّفة التي سادت تلك المرحلة.
في كتابه "فلسفة التنوير" (1932)، الذي نقله إلى العربية المترجم الفلسطيني إبراهيم أبو هشهش، وصدر حديثاً عن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يدرس المفكر الألماني الفكر الأوروبي الحديث منذ عصر النهضة وصولاً إلى مشكلات فلسفة التنوير الخاصة في نشأتها وتكوينها.
تتألّف الدراسة من سبعة فصول؛ يعود الأول "أشكال التفكير في عصر التنوير"، إلى تطور الروح التحليلية في فرنسا التي كانت موطن التحليل وأرضه الكلاسيكية، ويرى كاسيرر في الفصل الثاني "الطبيعة والمعرفة الطبيعية في فكر فلسفة التنوير" أنه لا يجوز الاكتفاء برصد الملامح الفردية التي ساهمت بها المعرفة الطبيعية في محتوى صورة العالم وأعادت من خلالها تشكيل هذه الصورة على نحو حاسم. وبحسبه، يبدو مدى هذا التأثير في صورة العالم غير قابل للحصر تقريباً.
في الفصل الثالث "علم النفس ونظرية المعرفة"، يقول صاحب "فلسفة الأشكال الرمزية" إن من السمات المميزة للفكر في القرن الثامن عشر الارتباط الوثيق بين مشكلة الطبيعة ومشكلة المعرفة، حيث لم تكن الفكرة قادرة على التوجه إلى عالم الموضوعات الخارجية من دون أن ترتد في الوقت ذاته متوجهة إلى ذاتها، ومحاوِلةً الوصول إلى حقيقة الطبيعة وإلى حقيقتها الخاصة. فالمعرفة لم تُستخدم بوصفها أداة نزيهة، إذ كان السؤال عن مبرّر استخدام هذه الأداة وعن طبيعتها يُطرح باستمرار.
ويرى أن السؤال الذي ينبغي طرحه هو: أي نوع من الموضوعات ملائم لمعرفتنا ويمكن تحديده من خلالها؟ وحل هذا السؤال يكون في "الفهم الدقيق لطبيعة الإدراك الإنساني الخاصة فحسب، وذلك من طريق قياس مجال هذا الإدراك، وهذا يعني كامل المنطقة التي تنتمي إليه وتتبع مسار تطوره من عناصره الأولى حتى أشكاله العليا. بناء عليه، ترجع المشكلة النقدية إلى مشكلة تكوينية، لأن صيرورة العقل الإنساني هي وحدها ما يستطيع منحنا تفسيرًا كافيًا لطبيعته. من هنا، أُعلن علم النفس أساساً لنقد المعرفة".
يرفض كاسيرر في الفصل الرابع الذي يحمل عنوان "فكرة الدين"، القول إن التنوير كان حقبة غير دينية ومعادية للإيمان في اتجاهه الأساسي، "لأن مثل هذا الفهم للتنوير قد يحتمل خطر تجاهل أهم إنجازاته الإيجابية، فالشك في ذاته لا يمكنه توليد مثل هذه الإنجازات، ويتناول في الفصل الخامس "غزو العالم التاريخي" الرومانسية التي لم تكن قادرة على اكتساب مكانتها وإثبات ذاتها من دون عون فلسفة التنوير.
يتحدّث الفصل السادس "القانون والدولة والمجتمع" عن فكرة القانون ومبدأ الحقوق غير القابلة للتصرف، فمن الملامح الأساسية لفلسفة التنوير أنها كانت تعود دائماً وأبداً إلى المشكلات الفلسفية الأساسية للإنسانية، على الرغم من سعيها إلى تحطيم اللوائح القانونية القديمة والوصول إلى وجود فكري جديد تماماً. كما يتناول فكرة العقد ومناهج العلوم الاجتماعية.
يشير صاحب "الأسطورة والدولة" في الفصل السابع "مشكلات علم الجمال الأساسية" إلى أن القرن الثامن عشر يحب أن يطلق على نفسه اسم "قرن الفلسفة"، لكنه يحب أيضاً أن يسمي نفسه "قرن النقد"، "وكلا الاسمين وصف لحقيقة واحدة في ما يتعلق بهذا القرن؛ فكل منهما يسعى إلى وصف القوة العقلية الأساس من جوانب مختلفة، وهي القوة التي كانت الحقبة تستشعرها في ذاتها وكأنها قوة حية تدين لها بدوافعها العقلية الحاسمة".