رحلة إلى ألبانيا؟ هل الأمر مثير، ويستحق؟ عن هذا السؤال يحاول الصحافي والباحث السوداني الراحل مكي أبو قرجة، تقديم جواب من خلال تفاصيل رحلته التي عنونها بـ"الأمل والقنوط في بلاد الأرناؤوط".
ولعله عنوان مكثف وشديد الدلالة لأنه يختزل حقيقة الوضعية العامة والمناخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي كانت تعيشه ألبانيا، أو بلاد الأرناؤوط كما سماها الأتراك، في إحالة على اسم يوناني قديم لها.
وإذا كان من قدر كبير وقاصم، لهذا البلد، متعدد الديانات، ذي الأغلبية المسلمة، فهو قدر الجغرافيا، وقد ظل هذا القدر يرسم مساره وتاريخه بين الكماشة العثمانية واليونانية والإيطالية، والتبعية للسوفييت والصين، والحروب الداخلية، وهو قدر لم يستطع تجاوزه إلا بشق الأنفس ودماء كثيرة في الآونة الأخيرة، في محاولة عيش تنشد السلم والسلام.
سيذهب هذا الصحافي السوداني إلى ألبانيا في رحلة عام 2002، وهي من السنوات المفصلية في التاريخ السياسي لهذا البلد، قادما إليها من إسطنبول، وسينزل في مطار تيرانا، ومن هناك تبدأ رحلته ومشاهداته.
يكتب "الوصول إلى تيرانا، هبطت بنا الطائرة الصغيرة بركابها القليلين في مطار تيرانا قادمة من اسطمبول. بدا الطقس حارا لأول وهلة في تلك الظهيرة الخريفية من شهر سبتمبر (أيلول) عام 2002.
إلا أن ما استرعى الانتباه حقا وشده كان ذلك المبنى الصغير للمطار. تظنه فيلا تسكنها عائلة متوسطة العدد، لا مطار دولة - أو كان ذلك تقشفا بروليتارياً؟ يحار المرء. ولكن يزول العجب حين تعلم أن هذا المطار كان كافيا جدا لاستيعاب حركة السفر المحظور تماما إلا للقلة القليلة من النخبة الحزبية والزوار الأجانب.
وكان هؤلاء الزوار أيضاً تعدهم على أصابع اليد. فألبانيا كانت تعيش عزلة حقيقية بعيدة عن العالم الخارجي في عهد النظام الشمولي الذي تحكم فيه أنور خوجة. خاصمت كل الدول. فقد كانت تبحث عن النقاء السياسي والفكري! يبدو أن طائرات أخرى قد وصلت لتوها بصورة متزامنة فتكاثر الركاب في الصالة لإنهاء إجراءات الوصول".
دهشة البداية
من دون شك أن رحالة وصحافيا لا يملك إلا حاسته التسجيلية التي دربها وشحذها خلال سنوات من عمله هي رأس ماله. ولعل الوافد الجديد أول ما يلفت انتباهه في بلد عرف وضعا سياسيا مضطربا وحالة اجتماعية معقدة، هو وضعية الأمن، وبالتالي فالحس الأمني العالي كان هو المظهر الطاغي على الحياة الاجتماعية في تيرانا وفي غيرها من المدن الألبانية، مع توق وتطلع إلى تجاوز الوضع السائد. فالانتكاسات الديمقراطية كثيرة، والمكوث مدة طويلة تحت الهيمنة السوفييتية ثم الصينية، والقبضة الحديدية للرئيس أنور خوجة، كل هذا ساهم في تردي الأوضاع وتذبذب مسارات الانتقال السياسي في البلاد.
يسجل أبو قرجة هذا الوضع ويقبض على ملامح علامات المكان في المطار وخارجه، ويرصد هذه الكثافة القوية التي تفيد أن تاريخا حادا عرفته البلاد، التي تنهض اليوم لجمع مزقها وبناء هويتها.
يقول "وقفوا في صفوف تزحف ببطء. يفحصون ويدققون ويراجعون، فلا يزال الحس الأمني متوفرا. ومن ثم تخرج لتجد سيارات أجرة متهالكة بانتظار القادمين. الطريق من المطار إلى وسط المدينة زراعي طويل. بساتين الحمضيات ممتدة ومزارع الذرة تصوحت أعوادها وما زالت قائمة.
ولكن سرعان ما تبدو مبان جديدة مسقوفة بالقرميد الأحمر من طابق واحد وطابقين تتخلل تلك المزارع. كأنها أقيمت على عجل. ملامح اقتصاد السوق ومجتمع الاستهلاك. عمران يبدو وكأنه مستعار من أجواء المدينة الأوروبية البورجوازية القديمة التي نشأت نقيضا للإقطاع في أوائل العصر الصناعي.
بعض المداخن تنفث دخانها. ومكاتب ومعارض لشركات أجنبية. لافتات ضخمة وإعلانات شاخصة للكوكاكولا وغيرها من المشروبات الغازية والوجبات السريعة. ملابس الجينز والأحذية الإيطالية. اسكندر بك.. "رمز العزة" وسط المدينة ومركزها السياسي والتجاري، لا يزال كما كان منذ سنوات الأربعين بمعماره الإيطالي.. قصر الثقافة أكبر المباني الحديثة، شيده الصينيون في سنوات الستين حين نكص السوفييت عن وعدهم بإقامته.. حملوا خرائطه وعادوا إلى موسكو حين لاحت في الأفق بوادر القطيعة بين البلدين. إلا أنه لا يزال يحمل بصمة من النظام الاشتراكي.. رسما كبيرا يعبر عن تضامن العمال والفلاحين والمثقفين والطلاب والنساء، ما زالت ألوانه فاقعة لم تمتد إليه يد لتمحوها رغم الحملة التي ما زالت مستمرة ضد ذلك النظام. تذهلك كثرة السيارات الصغيرة.. تندفع في كل الاتجاهات.. تبدو لك وكأنها لا تعبأ بإشارات الحركة. لا ترى من بينها سيارات جديدة.. جميعها مستعملة رغم أن السماح بامتلاك سيارة خاصة لم يتحقق إلا في عام 1991 بعد انهيار نظام خوجة.
التمثال الضخم للزعيم القومي التاريخي اسكندر بك.. رمز عزتهم على مر العصور ووحدتهم الوطنية التي ما انفكوا يحاولون تحقيقها.. فارس شاكي السلاح في هيئة فرسان القرون الوسطى أو قادة الحملات الصليبية.. مكتمل العدة.. يعتمر خوذة ويرتدي درعاً ويشهر سيفه.. تستهوي السياح ضخامته فيتسلقون قاعدته ويقفون للتصوير. وتمتد الساحة التي تحمل اسمه أمامه".
ركود
ينتبه أبو قرجة إلى كل هذا الوضع الراكد الذي تعيش فيه البلاد، في تلك الفترة، ويرصد مظاهر البطالة وشيوع عدد من المهن الهامشية، التي تشير إلى انعدام الأفق، وعدم القدرة على تقديم بدائل اقتصادية جديدة قادرة على توفير مناخ اجتماعي جديد، ومتنفس اقتصادي يؤدي إلى خروج هذا البلد الجميل جغرافيا من عنق الزجاجة.
فساحة المدينة وميدانها يخبرانه عن الأحوال، أليست ساحات المدن وميادينها هي الضمير الحي والمتكلم بما تكتمه الأصباغ ومحاولات الترقيع، يقول "ميدان واسع شهد أحداثا مهمة عبر التاريخ.. انتصارات وانكسارات.. اندحار قوات محتلة وتقدم أخرى منتصرة.. إعلان قيام أنظمة سياسية وسقوط حكومات.. حشودا وتظاهرات.. ومصادمات مع قوات الأمن وأعمال شغب وخطبا حماسية وقرارات حاسمة..
مهرجانات وليالي سياسية.. مواكب أعياد واحتفالات.. فرقاً موسيقية وأخرى شعبية راقصة. والآن يتسكع فيه المتبطلون وتجار العملة المتربصون بالمارة.. وماسحو الأحذية والجالسون والجالسات لشواء أكواز الذرة.. والصبية المشردون والعابرون المسرعون".
مسجد حاجي أدهم
تفيد الإحصائيات بأن عدد مسلمي ألبانيا يشكل حوالي 75 في المائة، متبوعين بالمسيحيين، وقد نشطت حركة بناء المساجد في العقود الأخيرة، كرد فعل على الهيمنة الشيوعية على البلاد. يكتب "مسجد حاجي أدهم ليس بعيداً عن تمثال اسكندر بك، يقف مسجد حاجي أدهم بك.. يتحدى السنين، حيث اكتمل بناؤه في أواخر القرن الثامن عشر.. كان مغلقاً منذ عام 1967م حين منع النظام إقامة الشعائر الدينية. إلا أنه لم يتعرض للهدم شأن الكثير من المساجد.. بقي لأنه جزء من التراث.. الآن يرفع منه الأذان بمكبرات الصوت إلى جانب مساجد أخرى بمختلف أنحاء العاصمة في الصلوات الخمس. هناك مساجد تغص بالمصلين، إلا أن معظمها لا يخلو من الجماعة.
وفي خلال السنوات العشر الماضية نشطت حركة بناء المساجد.. تكاثرت بصورة لا تخطئها العين.. بعضها لا يزال قيد الإنشاء.. ذلك جزء من العون الذي تقدمه الدول العربية (...) والإسلام لا يزال حاراً في دماء الناس.. يملأ وجدانهم، إلا أنهم يتخوفون من المد الأوروبي ومحاولات التنصير الواسعة.. يظنون أنه سيأتي زمان فيلتفتون لا يجدون من دينهم إلا الذكريات".
تعدد وانفتاح
يسجل أبو قرجة حالة الانفتاح الاجتماعي في مدينة مثل تيرانا وفي غيرها من المدن الألبانية، انفتاح أقرب إلى الحياة الأوروبية منه إلى الالتزام بالحجاب بالنسبة للنساء. وهو يرد ذلك إلى سنوات حكم نظام خوجة الطويلة. يكتب "يسود المدينة هدوء تام، يلفها الطقس الخريفي المنعش.
ترى الناس يزحمون الشوارع فتخالهم شعباً كثير العدد.. إلا أنهم في الواقع لا يتجاوزون الملايين الأربعة في الداخل والخارج.. تغص بهم المقاهي والمطاعم والحانات المنتشرة، كأن ليس لهم نشاط غير ذلك. ولكن يبدو أنهم يودعون الصيف فالشتاء يدق الأبواب. تراهم سعداء متآلفين بروح شرقية لا يخطئها البصر.
يجلسون جماعات يحتسون مشروباتهم في هدوء واستغراق.. وتفوح رائحة الشواء من المطاعم الصغيرة المتناثرة.. تجاورها محال الوجبات السريعة.. تلك ما كانت تعرفها ألبانيا.. شهدتها أخيراً كلوازم للديمقراطية والانفتاح.
النساء.. هناك كلهن سواء، المرأة حضورها طاغ وشخصيتها بارزة.. تجدها في كل المرافق والمكاتب والبقالات والمطاعم.. جادة ومتماسكة، إلا أن سمتها أوروبي أكثر من أن يكون شرقيا. لا تستطيع أن تميز المسلمة من غيرها. كلهن سواء. حتى الفتيات الشابات يدخن ويتعاطين المشروبات بصورة علنية في المطاعم والفنادق. لا ترى تبذلاً ولا إسرافاً، ولكن يبدو أن التقاليد الاجتماعية فرضت ذلك.. لم أر محجبات أبدا.. يلبسن البنطلونات الضيقة والبلوزات التي تكشف معظم البطن.. شأن الأوروبيات تماما أو قل هن مثل التركيات".
ظلال خوف وشك
يقدم أبو قرجة هنا، لوحة عامة عن مخاوف المجتمع الألباني وتطلعات هذا الشعب، وهي مخاوف ناتجة عن مراحل طاحنة عاشها في تاريخه البعيد والقريب، يكتب "أمعن صديقي في كرمه حين استوقف سيارة أجرة وطلب من سائقها توصيلي إلى فندق كاليفورنيا بوسط المدينة.
كان يخشى عليّ من سائقين مشبوهين يستغلون الأجانب يسلبونهم ما يملكون. فالأمور قد تغيرت بعد سنوات الانفلات وأصبحت مثل هذه الحوادث واردة في كل يوم. يحدث كل ذلك بعد الانضباط والخوف الذي كان يتلبس الجميع من قوات الأمن التي كانت تحصي الأنفاس في ذلك الزمن الشمولي الرهيب.
الشاعر نعيم فراشري دلفت إلى مكتبة - قرب ميدان اسكندر بك - كان صاحبها الملتحي يتهيأ لإغلاقها بعد أن أقبل الليل.. حاورته قليلاً بالإشارة تارة وبمفردات من العربية والإنكليزية أخرى. لم يكن يعرف سوى لغته الألبانية.. إلا أنه كان مصراً على الحديث. كل الكتب باللغة الألبانية.. لم أجد شيئاً بالإنكليزية.
لفت نظري كتاب عن الشاعر نعيم فراشري، طبعاً الحروف باللاتينية، وهو من شعرائهم الوطنيين البارزين. قرأت كثيراً عن نضاله الوطني ولجوئه إلى مصر وعيشه بالإسكندرية إبان الاحتلال التركي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين. لم يبد ارتياحاً لما حاولت أن أقول عن الشاعر بدعوى أنه كان شيعياً وماسونياً.
أحسست أنه لا يخلو من تعصب لما يؤمن به. لم تمر لحظات حتى أقبل رجلان، أحدهما أسن من الآخر. حياني الرجل الأول بحرارة، وأخذ يتحدث بإنكليزية ركيكة عن أحوال المسلمين. تغلب عليه العاطفة لا الفكر. لم يلبث الحال أن انضم شاب آخر إلى مجموعة المكتبة هذه فأصبحوا أربعة. وحين علموا أني قادم من بلد مسلم بدا الاهتمام على وجوههم وطلبوا مني الجلوس على كرسي عينوا موضعه، وما كانوا يتحدثون همساً ولكن بحذر.
قالوا إن الشيوعيين عادوا إلى الحكم لأن الساحة السياسية ليس فيها غيرهم.. وأنهم يسيطرون على مفاصل السياسة والاقتصاد.. فما استطاع الآخرون زحزحتهم رغم الزلزال الذي ذهب ببعض سطوتهم وغيب رموزهم التاريخية.. وهامش الحرية الذي ينعم به الألبان الآن بعد سقوط مجموعة الدول الاشتراكية ما هو إلا وهم وسراب خادع.. وليس متاحاً للناس حالياً سوى حرية العبادة. لاحظت أنهم يتعاطفون مع فكرة الجهاد، لكن معرفتهم بالإسلام سطحية وجد ضعيفة.. يدفعهم الحماس والعاطفة، ناولهم صاحب المكتبة مجموعات من الكتب كانت معدة سلفاً.
بدا من أحاديثهم أنهم ليسوا مجرد قراء عابرين. المتغيرات على صعيد الإنسان واضحة وبارزة.. تلمسها في السلوك العام.. الناس أكثر إقبالاً على الحياة وباحثين عن سبل جديدة لتغيير حياتهم ولكن لم يدركوها بعد. بدأوا ينطلقون فعلاً وينفكون من الإسار النفسي للنظام الشمولي.. صدقوا الآن أنهم باتوا أحراراً. ولكن على المستوى الاقتصادي والعمراني التغيرات أقل شأناً.. فالتركة ثقيلة والتخلف مريع. صنعته قرون من غياب إرادة الإنسان.
الظروف الجغرافية والعزلة الجبلية التي امتدت قروناً.. رفدها الغزو الأجنبي والاحتلال الاستيطاني الطويل بتكريسه هوة عميقة وقفت حائلاً دون الاستفادة من التراكم الحضاري الأوروبي المحيط. الانفتاح الاقتصادي والانفراج السياسي بتجلياته المختلفة لم يجسد مؤشرات لتغيير مرتقب.
اقتصاد السوق لم يعبر حتى الآن عن استثمارات كبرى من شأنها أن تقفز بالاقتصاد ليتماهى ولو قليلاً مع الاقتصاد الأوروبي. الأحزاب السياسية، حكومة ومعارضة، بانتظار عضوية الاتحاد الأوروبي".