لا يزال المكان الذي شغله محمد الغزالي في مسيرة الفكر الإسلامي المعاصر شاغراً، حيث أحدث رحيله في التاسع من آذار/ مارس 1996 فراغاً كبيراً لم يعالجه سوى إعادة طباعة مؤلفاته التي تجاوزت الخمسين كتاباً، قدّم فيها بأسلوبه البليغ وروحه المنطلقة مشروعاً إصلاحياً يقوم على النقد الذاتي لهذه الأمة المتراجعة حضارياً.
اختلف جوهر الغزالي عن النسخ المكرورة للشيوخ التقليديين، رغم ارتباطه بالمظهر الأزهري التقليدي، فعُرف بمواقفه النقدية الصارخة لكل ما من شأنه أن يعطل الأمة عن النهوض من غيبوبتها الحضارية، وهو ما استدعى بطبيعة الحال العديد من الصدامات مع التيارات الفكرية السائدة يسارية ويمينية، كما أنّ التيارات الإسلامية التي عاصرها الغزالي حظيت في خطبه ومؤلفاته بنقد لاذع، خاصة تلك التيارات المتشدّدة.
انتقد الغزالي جماعة "الإخوان المسلمين" التي انتمى إليها في فترة مبكرة. ودوّن ذلك في غير موضع من أشهرها كتابه "من معالم الحق" الذي عاب فيه بعض مناهج التربية في الجماعة، مثل "مبدأ السمع والطاعة"، وهو الذي فُصل من مكتب الإرشاد بعد نقده الطريقة التي أديرت الحركة بها بعد رحيل مؤسسها الشيخ حسن البنا.
وبالرغم من تركيزه الكبير على إصلاح الفرد والمجتمع، والتعويل على ضرورة تغيير عقلية الشعوب؛ فقد كانت له مواقفه السياسية التي ينتقد فيها الأنظمة الحاكمة وسلوكياتها، وقد كانت له سابقة اعتقال مبكرة سنة 1948 بعد حلّ جماعة "الإخوان المسلمين".
ولم تُغفل كتبه التعرّض لانتهاكات حقوق الإنسان التي حدثت في سجون عبد الناصر ضد المعارضين السياسيين، ثم كان موقفه واضحاً في رفض "معاهدة كامب ديفيد" التي أقدم عليها السادات مع الكيان الصهيوني.
وكان بديهياً أن من يؤلف كتاباً بعنوان "الإسلام والاستبداد السياسي" أو "الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية" ستكون علاقته بالأنظمة الحاكمة ليست على ما يرام.
تعرّض الغزالي للعديد من المنغصات على مستويات غير رسمية، خصوصاً من أبناء الحركة الإسلامية، فقد اتهم من قبل المتشددين بالعمالة للنظام الجزائري لأنه قبل دعوة الرئيس الشاذلي بن جديد للإشراف على مشروع يهدف لاستعادة الهوية العربية والإسلامية للجزائر بعد سنوات طويلة من الفرنسة.
كما اتهمت أفكار الغزالي بالانسلاخ من الأصولية والميل إلى الجناح العقلاني الاعتزالي، ولاقى كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" الذي نشر في أواخر حياته ردود أفعال عنيفة من التيارات الأصولية.
أما التيارات العلمانية فلم تنس للشيخ الغزالي شهادته في قضية مقتل فرج فودة، حين أفتى بـ "جواز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها. وإن كان هذا افتئاتاً على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة".
وإن كانت هذه الفتوى التي سُئل عنها نصاً في المحكمة كانت مجردةً، ولا تعني أن الشيخ الغزالي يعتقد في تكفير فرج فودة، فقد قال نصاً في أحد الحوارات: "قرأتُ كتاب فرج فودة "الحقيقة الغائبة"... ورغم اختلافي مع ما وصل إليه فرج فودة فهو ليس بالكفر البواح، وإنما الرأي الخطأ. وبالقطع لا يخرجه من الملة. وقد قِيل -بحق- إنه إذا حُمل القول على تسعة وتسعين باباً تحتمل الكفر، وباب واحد يحتمل الإيمان وجب أن نحمِله على الإيمان. أضف إلى ذلك أن فرج فودة كان مهذّباً، ولم يبدر منه أي استهزاء بالدين. بل كان مبرّره لرفض الدولة الدينية هو وضع الدين المقدس في أعلى عليين، والحرص عليه من أوساخ السياسة. وبالتالي لا أتردّد في القطع بأن فرج فودة حرام الدم، قُتل مظلوماً، رحمه الله".