تنتهي غداً الجمعة المدة المُقرّرة لاحتفالية سور الأزبكية المُقامَة لأول مرة في أقدم وأشهر مواقع بيع الكتب المستعملة في القاهرة. جرى الإعلان عن الحَدَث بداية كانون الثاني/ يناير الماضي، وقد تَرَاوَحَت تَسمِيَته بين معرض ومهرجان سور الأزبكية، وتباينت ردود الفعل على استمراره شهراً كاملاً، حيث يغطي أسبوعَيْ "معرض القاهرة الدولي للكتاب" في دورته الخمسين ويتجاوزهما.
في هذا السياق، عَمَدَت بعض الجهات إلى استعمال ألفاظ من قَبيل "المعركة" و"التحدّي" لوصف ما أقدم عليه باعة الكُتُب القائمون على مكتبات السور إثر التحوّلات المترتّبة على انتقال معرض القاهرة من "أرض معارض مدينة نصر" إلى "مركز مصر للمعارض الدولية" في القاهرة الجديدة.
فمنذ سنوات - كما صرّح حربي محسب أشهر شيوخ باعة السور للصحافة - وهذه المكتبات تعتمد على المعرض لتحقيق أكبر كتلة بيع في السنة كلها، ما يمكّنها من شراء الكتب وتغطية المصروفات طوال العام التالي. لقد ترسّخت علاقة هذه التجارة بأرض المعارض حتى بات قُرّاء كثيرون لا يعرفون لسور الأزبكية معنى سوى ذلك القسم من المعرض حيث الكتب القديمة - ومنذ بداية الألفية، المقرصنة أيضاً - تباع بأسعار منخفضة خارج "السرايا" الرسمية في الخيام والخلاء.
وبسبب طبيعة المكان والسياسة الإدارية المُعتَمَدَة حتى دورة اليوبيل الذهبي، لم يكن ثمّة قيود على المساحة المخصّصة للسور قبل هذا العام، كما أن تُجّار الأزبكية كانوا يتمتّعون بتسهيلات مُقارنةً بأعضاء اتحاد الناشرين، الأمر الذي لم يعد مَطروحاً مع المكان والمنهج الجديدين.
هكذا أعلنت "الهيئة العامة للكِتَاب" - الجهة الحكومية المنظّمة للمعرض - أن المقرّ الجديد لن يتسع لأكثر من 33 من أصل 133 مكتبة يتم اختيارها بالقُرعة ويكون على أصحابها سداد الإيجار المرتفع ذاته المفروض على أعضاء اتحاد الناشرين الذي يرى في السور خصماً نتيجة ارتباط مكتباته بالنسخ المقرصنة من إنتاج أعضائه. فما كان من الباعة - باستثناء ست مكتبات خرجت على الإجماع - إلا رفض المشاركة في المعرض ومن ثَم بدأ الإعلام يتكلم عن استبعاد السور وانحياز الهيئة لخصمه التاريخي.
إثر تباحثهم في كيفية تفادي الأزمة الاقتصادية المترتّبة على غيابهم عن المعرض، قرّر الباعة إقامة مهرجان يُخرِجون فيه ما في مخازنهم ويخفضّون أسعاره وقد رفعوا لافتات ترويجية واحتشدوا لعرضه على نحو مشابه لما كان يحدث في مدينة نصر. وفي ضوء موقع سور الأزبكية والأسعار التي يطرحها مُقارنةً بمعرض القاهرة الواقع خارج "العمار" والمرتفعة أسعار بضاعته أكثر من أي وقت مضى، دون أن يؤثر ذلك على جماهيرية الأزبكية كما توهم بعض المهتمين، إذ توافد القرّاء على السور.
يعود تاريخ سور الأزبكية إلى سنة 1926 حين استقر بائعو الكتب المتجولين على رصيف حدائق الأزبكية في ميدان العتبة - دُرّة القاهرة الخديوية آنذاك - وبدأ رواد المقاهي المحيطة يعتادون تفقُّد "رَصّات" الكتب التي يفرشونها أمامهم. لكن الرصّات والمكتبات التي انبثقت عنها نُقلت أكثر من مرة نتيجة أعمال البناء وأهواء المسئولين، فمن رُكن ضيّق في العتبة إثر استبدال مبنى الأوبرا القديم بكراج سيارات مطلع التسعينات إلى حي الدراسة في القاهرة الإسلامية رجوعاً إلى العتبة سنة 1998 وحتى المساحة المغلقة التي يشغلها السور الآن خلف محطة مترو الأنفاق، تزاحمه صنوف التجارة والضجيج.
وقد تفادى السور محاولة أخرى لنقله - تلك المرة إلى مدينة نصر - في ربيع 2012، حين أقيم مهرجان آخر أصغر حجماً تضامناً مع الباعة ضمن "حملة ثقافية" انتهت بإلغاء القرار. وظل السور في مكانه وإن ضعف الإقبال عليه وتوارت "الكنوز" فيه بالتدريج.
لكن المهرجان الحالي وإن وفّر مناسبة مواتية لزيارة السور في أفضل أحواله - بما في ذلك اقتناء كتب إنكليزية في حالة جيدة بأقل من ربع ثمنها والعثور على نُسَخ كتب عربية خاصةً من مطبوعات الدولة يستحيل الحصول عليها في مكتبات الهيئة أو سواها - فقد كشف أيضاً عن تحوّلات مؤلمة في "معقل الثقافة وملاذ المثقفين" لعلها انعكاس الكساد الاقتصادي العام من ناحية وتراجع مهنة النشر من ناحية أخرى.
فبينما كان السور في بداية الألفينات متاهة للبحث عن مجلدات ودوريات وخرائط نادرة أو كتب سقطت خارج دائرة النشر وأخرى طُبعت في النصف الأول من القرن العشرين، أكثر من نصف المطروح الآن هو طبعات مقرصنة من الـ"بست سلرز" الصادرة حديثاً وكتب الأطفال الأجنبية والكتب المدرسية. أما الكتب ذات القيمة فمختبئة إن لم تكن تالفة.
يحيط بالمكان زحام وضجيج لا يتناسبان وضيق سراديبه، لكن الأهم أنهما يسلبانه ما كان له من حسّ مغامرة قائم على وعد الاكتشاف وطموح الاصطياد، ويحوّلانه إلى سوق، مجرد سوق شعبي كسواه من أسواق القاهرة الخديوية… ميزته الوحيدة أن أسعاره في المُتناوَل.