في الوقت الذي تتلاشى فيه كثير من الأغنيات والألحان دون أن يتبقى لها أثر يذكر تظلّ موسيقى سيد درويش (1892 – 1923) وألحانه تتردّد حتى اليوم كجزء من التراث الموسيقي المصري وجزء من كفاح شعب من أجل أحلام تحققت وأخرى لم تتحقق بعد.
في السابع عشر من الشهر الجاري تمر 124 عاماً على ميلاد صاحب نشيد "بلادي بلادي" الذي ما زال الشعب المصري يردده حتى الآن بشكل صحيح بلا عناء أو تدريب.
درويش الذي نشأ في بيئة شعبية بعيدة تماماً عن الأوساط الفنية ولم يتعلّم الموسيقى في أي معهد ولم تكن له طموحات فنية صرفة، فالفنان الشعبي الذي امتهن البناء، اكتشفت موهبته كما تقول الروايات وهو يغني أثناء العمل لتزجية الوقت.
في عام 1909، تدخّلت الصدفة في تشكيل حياة سيد درويش الفنية حين كان يغني في مكان عمله فسمعه رجلان من "الشوام" كانا يجلسان على مقهى بجوار موقع عمله هما أمين وسليم عطاالله، صاحبا فرقة مسرحية تعمل في الشام. عرض عليه الرجلان الانضمام إلى فرقتهما فقبل الشاب المصري وسافر في أول رحلة له خارج بلاده وكان عمره حينئذ 17 عاماً.
اكتنز درويش الموروث الشعبي البسيط الذي تربى عليه، والذي كان بعيداً عن أوساط المطربين والملحنين المحترفين في تلك الفترة، والذين انخرطوا بشكل كبير في الطرب "العثمانلي" من جهة، ومن جهة أخرى احترف بعضهم الغناء في صالات اللهو (الكباريهات) أو اتجه صوب النمط الأوروبي.
ورغم أن سيد درويش كان يغني في مقاهي الإسكندرية، إلا أنه لم يكتف بتقديم ما حفظه عن الشيخ سلامة حجازي الذي كان يُعتبر الفنان الأول في مصر في ذلك الوقت، إذ سرعان ما بدأ في تقديم ألحانه الخاصة، فقدّم أول أدواره "يا فؤادي" وشجعته ردود الأفعال الإيجابية على مواصلة التجربة ليبدأ في تلحين أغانٍ لم يكن أحد يتوقّع أن تمثل النقلة التحديثية في الفن المصري والعربي الذي كان مثقلاً بالتكلّف والزخرفة.
مع سيد درويش خرج الفن من الأماكن المغلقة من صالونات وكباريهات إلى الشارع، بالمعنى الحرفي للكلمة، وكذلك باستلهامه للنغمات الشعبية البسيطة والقوالب الغنائية السهلة، فجاءت جملته الموسيقية واضحة خالية من التعقيدات.
لا يدين الشيخ سيد بشهرته لأحد، فما حقق له ذلك الانتشار هو انضمامه لجموع المناضلين من أجل استقلال مصر من الاحتلال. تلقف المصريون ألحانه الثورية وتناقلوها، فقد كانت قوية وسهلة التمرير معبّرة عن حال وطموحات البسطاء.
ولا يزال موت سيد درويش لغزاً إلى الآن تختلف حوله الروايات، ممن يتهم الإنجليز بالتآمر على قتله ليتخلصوا منه بسبب أغانيه المحرّضه ضدهم، وآخرون أرجعوا سبب وفاته لمؤامرة شخصية أو لجرعة زائدة من المورفين.
لم ينتقل هذا الاختلاف إلى تقييم أعماله، فعلى المستويين الشعبي والنخبوي كان هناك إجماع حول عبقريته، واستمر هذا الاعتراف مع الأجيال لتؤثث أغانيه جزءاً من أغاني "ميدان التحرير" في ثورة 2011.
اقرأ أيضاً: زمن موسيقى الشيوخ