قد يكون فريدريك نيتشه ملهماً كبيراً للتعصب والأفكار الجريئة المتطايرة من هذا المفهوم. وربما هو صانع مفاهيم كبيرة مثل إرادة القوة، أو محيي شخصيات جنونية مثل زرادشت، غذّت نزعات التعصب في العالم؛ إلا أنه بريء من عملية شارلي إيبدو.
كان نيتشه ملاحظاً وقارئاً في أعماق الذات البشرية والمجتمعات. ذهب إلى أقصى ما يمكن أن تذهب إليه أفكاره في مسارات الحقيقة، ودفع ثمن معرفتها وقولها الباهظ. عاش حياته بطلاً بسيطاً ووحدانياً في قرن كان مثل زمننا هذا زاخراً بالتناقضات والتيارات والعنف.
نيتشه لم يكن متعصباً، رغم أنه فلسف التعصب، وها هو يجعل لأولى أعماله "مولد التراجيديا" عنواناً فرعياً هو "محاولة في النقد الذاتي"، ومتى يتحلّى أحدهم بالنقد الذاتي يحصّن نفسه من جرائم التعصب. ومن هنا منطلق الاختلافات بين تعصب وآخر.
لا ننوي تقديم مديح للتعصب الغربي على حساب الإخوة المتعصبين لدينهم، ولكنها قراءة في أوجاع عالمية مشتركة. لقد اعتبر نيتشه أن "التعصب هو الشكل الوحيد من أشكال قوة الإرادة التي يمكن للضعيف والمتردّد البروز من خلالها".
هكذا قالها بصراحة يفتقدها معاصرون. إنه يقدّم هنا قاعدة نقيس بها كل أشكال التعصب التي أنتجتها حداثة القرون الأخيرة مروراً من اعتبارات الاستعلاء العرقي أو فرض للأفكار بالقوة والاستعمار مثل نظريات اليد الخفية أو قوانين ريكاردو على الاقتصاد العالمي، وصولاً إلى آخر حبات العنقود أي "الإرهاب الإسلامي".
في كتاب "مولد التراجيديا"، حفر نيتشه في مشترك الفكر الغربي، لكي يؤسس لفكرة الفن. ذهب إلى الينابيع الإغريقية. اكتشف أنه كان لا بد من تدمير مبدأ الفردانية لتشييد صرح الفنون، أي أن تذويب الفردانية في الجماعي، ومن أجل الجماعي، كان هاجساً.
أما بالنسبة إلى القاتل الجهادي، فسنجد أن المنهجية ستختلف معه تماماً. إنه حين يُقدم على عملية إرهابية يقوم بعمل جماعي بامتياز، في أهدافه ودوافعه ونتائجه. يقوم بعمل باسم "الأمة" أو الجماعة، دون أن يكون له أي منفعة معقولة. لكنه يرى نفسه نموذجاً أعلى لآخرين، بطلاً أسطورياً ينضاف لقائمة الانتحاريين الكبار. وتلك درجة عليا من درجات الفردانية. فهذا القاتل هو نكرة حتى يقوم بعمله الإرهابي، وقتها يبرز. ولعل الأخوين كواشي لا يمثلان أي شيء في التنظيمات التي ينتميان لها، إلا أنهما أصبحا أشهر من كبار القياديين فيها.
هذا الانقلاب بين نقطتي الانطلاق والوصول، جوهري في جريمة شارلي إيبدو. اعتداء على الفن في الغرب باعتباره مساراً مقابلاً للمسار الجهادي. قد يكون صداماً بين شكلين من التعصب، بين ما سمي بتعصب لحرية التعبير وما يعرف بالتعصب الأصولي، إنهما شكلان مختلفان من التعصب: تعصب نابع من تفكير حر، وتعصب نابع من تفكير قطيعي. ولقد أوصل التقاء التعصبين إلى المأساة الأخيرة، ولا شيء يمنع من تكرارها إلا تغذية كل تعصب بالنقد الذاتي.
يستهلك الإرهابيون أنفسهم لكي يوصلوا فكرة يتعصبون لها. يقدمون أنفسهم كقرابين، ولكنهم لا يحاولون أن يبتكروا طريقة للبروز. إنهم منفذون رغم صلاحيات التحرك الموسعة الممنوحة لهم من قبل القياديين. عدم القدرة على الابتكار نابع من عدم البحث عن هذه الملكة. لا وجود لنقد ذاتي لديهم. لا نقول إنهم لا يعرفون الآخر، فهذه المرة كان الأخوان كواشي أبناء الحضارة الغربية قبل أن يكونا إسلاميين.
حين نعود إلى نيتشه، سنجده قد تم تحريفه مرات ومرات منذ أن غادر هذا العالم نحو الجنون ثم الموت. وفي ما عدا التعصب، لن نجد له نقاط التقاء أخرى مع الأخوين كواشي. اللهم إلا الحداثة، ذلك المسار البشري المشترك الذي أنتج نيتشه وأنتج جريمة الأخوين كواشي. الحداثة التي تتجسد في شكل فلسفة في ظروف معينة، وفي شكل جرائم إرهابية في ظروف أخرى.