ربما بدأ نقدُ الشعر مع "أم جندب" على ما نقله الرواة. وأم جندب هذه زوج امرؤ القيس الشاعر الذي يصفه جرير بأنه الخبيث الذي جعل الشعرَ نعلين له يطأهما كيف شاء.
ولكن يبدو أن خبثه لم يخدع زوجةً مثل هذه. فحين طلب منها أن تفاضل بين شعره وشعر علقمة الفحل فضّلت الأخير عليه، فطلقها فوراً رغم أنها لم تكن تفاضل بين رجلين بل بين قصيدتين.
في ظننا أن أم جندب ما زالت تتعرض لسوء الفهم حتى في العصور الحديثة، وما زالت تُطلّق كل يوم، وهو ما يعزّز اعتقادنا بأنها أول من بدأ النقد فعلا، وعلى إيقاع نقدها ورد الفعل عليه ما زالت ثقافة الشعرية العربية ترقص. وإذا جاز لنا أن نشتّق شيئاً من النسب بين الناقدة أم جندب وبين النقاد اللاحقين، فسنقول أنهم "جنادب" ولكن ليس بالمعنى الذي تذهب إليه الرواية: إنهم جنادب تدبّ أو تقفز أو تتطاير، فيهش عليها الخبثاء من أحفاد امرؤ القيس.
الأمرُ في العصور القديمة لم يكن يجري دائما كأنما في جنة البراءة كما حدث مع أم جندب، بل كان يجري في حقل واسع لا براءةَ فيه. كان هنالك مستمع وشاعر، ونشأت بين الاثنين هذه العلاقة العجيبة التي تنشأ عادةً حين يكون الشفهي أحد المكونات المهمة للذائقة والمفهوم وطبيعة الخيوط التي تتصل بين المستمع والشاعر. وهي المكونات التي أخرجت من جنتها أم جندب، وتحوّلت الجنادب في حقلها إلى يعاسيب بلا أجنحة.