في 22 من الشهر الماضي، وافقت لجنة الأمم المتّحدة الخاصّة بتصفية الاستعمار، في اجتماعات دورتها الأخيرة، على ما يُقارب 22 قراراً تتعلّق بقضايا تقرير المصير العالقة في المناطق غير المحكومة حكماً ذاتياً، في أفريقيا وأميركا اللاتينية وجزر البحر الكاريبي.
ورغم أن عدداً من المؤتمرات والمنتديات الدولية، في الماضي القريب والبعيد، تناولت مسألة تصفية الاستعمار من زوايا أوسع من زاوية تقرير المصير السياسي، أو ما يُدعى الحكم الذاتي، من زاوية تصفية استعمار المناهج كما بحثته النيوزيلندية ليندا تيهيوائي سمث، أو تصفية استعمار علم الجمال كما هو لدى "حركة الحداثة المتجاوزة" في أميركا اللاتينية، أو تصفية استعمار العقل كما طرح الروائي الكيني واثنغو نغوجي، إلا أن اللجنة الدولية ما تزال مقيّدة بنظرة سياسية محدودة. يُضاف إلى ذلك تجاهل أن مفهوم تصفية الاستعمار يتعلّق بكل الشعوب التي سُرقت أراضيها منها، وخاصة تلك التي تعرّضت إلى استيطان استعماري، مثل جنوب أفريقيا وكندا وفلسطين ونيوزيلندا وأجزاء من الأميركيّتَين.
في هذا السياق، يمكن ملاحظة أن هذا المفهوم ارتبط بمفهوم التحرّر على شتّى الأصعدة، إلى درجة أن بعض الباحثين اعتبر "تصفية استعمار المعرفة" أكثر أهمية من تصفية الاستعمار السياسي، ما دام هدف التصفية النهائي هو الخلاص من هيمنة الغرب/ المركز.
وفي المقابل يُمكن ملاحظة أن ثمّة رد فعل من قبل المستعمِرين القدماء والجدد يحاول مصادرة هذا المفهوم، وإفراغه من مضمونه التحرّري بالمعنى الشامل، فتتولّى أكاديمياته عقد المنتديات في قلب عواصمها، مثل المنتدى الدولي الذي دأب على عقده سنوياً "مركز التاريخ القومي" في واشنطن منذ عام 2006، والذي يسعى باحثوه إلى تركيز النظر على انحلال الإمبراطوريّتَين البريطانية والفرنسية وغياب ظلالهما المباشرة في القرن العشرين عن مستعمراتهما. ويمضي بعض آخر منهم، مثل الباحثة لورين آبتر، إلى تسليط الضوء على دور ما تُسمّيها "الصهيونية الأميركية في تصفية استعمار فلسطين"، أي إقامة الوطن القومي اليهودي، وإنهاء الحكم البريطاني!
وتحضرنا هنا جهود مجموعة من الباحثين الأكاديميين من كندا على وجه الخصوص، تعمل على ربط مفهوم تصفية الاستعمار بالتحرّر من كل أشكال الاستعمار، وخاصة الاستيطان الاستعماري في كندا وفلسطين. وكانت بداية عمل هذه المجموعة التي تضم باحثين وفنانين وشعراء إطلاق مجلّة تحمل عنوان "تصفية الاستعمار" منذ عام 2012 في مجالات المجتمع والتربية والتعليم وشؤون شعوب البلدان الأصلية.
وخصّصت آخر عدد لها صدر في صيف العام الماضي لفلسطين التي توضَع قضية تحرِّرها في سياق دراسات الاستيطان الاستعماري، والدراسات النقدية الخاصة بشعوب المستعمرات السابقة والحالية، بالإضافة إلى الدراسات المتعلّقة بالأعراق وبممارسات سياسية أخرى.
وفي تعليل هذا النوع من البحث المختلف عمّا هو شائع في لجان الأمم المتحدة وغيرها، يقول مجلس تحريرها في كلمة افتتاحية بقلم الأكاديميَّين من "جامعة تورنتو" الكندية، ليندا تابار وكاندني ديساي، تحت عنوان "تصفية الاستعمار مشروع عالمي: من فلسطين إلى الأميركيّتَين": "إننا، بعملنا هذا، نقف في بحثنا وكتابتنا على الضد من الطريقة الغالبة على تناول فلسطين، والمؤطّرة في وسائط الإعلام الشائعة والدراسات الأكاديمية".
تلخَّص هذه الرؤية في أن فلسطين تعرّضت منذ عام 1948 إلى "استيطان استعماري" ما زال جارياً حتى الآن، و"أن كتاب المجلّة (وغالبيتهم من الجامعات الكندية) يبدأون في كتابتهم عن الاستيطان الاستعماري الجاري في فلسطين، باكتشاف مواقعهم على الأراضي التقليدية المسروقة في كندا، أراضي "أمّة هيران ويندات" سكّان كويبك الأصليّين التي سرقها الجزويت في عام 1792، وأراضي تحالف القبائل، "هودانيساني" ( الذين صنعوا البيت)، و"سنكا" (شعب التل العظيم)، والأقرب عهداً، أراضي "مسيسوجا" (سكان أعالي النهر الكبير) المسروقة مع مياهها واهبة الحياة".
وبالعودة إلى أوّل عددٍ من أعداد هذه المجلّة نشر في فضاء الإنترنت في عام 2012، نجد ثلاثةً من هيئة تحريرها يضعون الخطوط العريضة لتوجّهاتها تحت العنوان العريض "تصفية الاستعمار ومستقبل سكان الأرض الأصليّين"، هم آمن سام، وكاندني ديساي، وإيريك ريتس، من "معهد أونتاريو للدراسات التعليمية".
ويبدأون بالقول إنهم "صعقتهم كثرة الرؤى والمفاهيم عن تصفية الاستعمار التي واجهوها، والكثير منها مطروح في هذا الإصدار التدشيني، آملين التعامل معها في المستقبل"، ولم يكن هذا مفاجئاً أيضاً، لأن تصفية الاستعمار عملية فعّالة تتضمّن تناقضات وخلافات.. وظل مفهومها، كما مفهوم وتعريف السكّان الأصليّين، مفتوحاً إلى مدى معين".
ويضيفون: "بالنسبة لثلاثتنا، ونحن نكتب هذا، نعي وعياً عميقاً الحاجة إلى أن نبدأ بما هو متوفّر بين أيدينا، بنظرة إلى الداخل، إلى تواريخنا نحن، إلى الاسترقاق والامتيازات والتناقضات والتوترات وانعدام الأمان والغضب والأمل والتفاؤل والطموح.. وكل واحدة من هذه متشابكة مع الأخرى، ولا يمكن أن يتحقّق لنا وجود في عالم متناقضات من دون أن ندخل في قلبها، ومن دون أن نتورّط في عددٍ كبير من التناقضات التي اخترناها والمفروضة علينا، والعاملة حولنا". ويختمون بالقول: "نحن، في كتابتنا لهذه الكلمة، نتحّدث مع أنفسنا، وتواريخنا وتجاربنا الخاصة".
وعلى هذا الأساس، سنجد في أعداد السنوات اللاحقة أبحاثاً معمّقة، مثل بحث ميغيل زافالا المعنون "ماذا تعني استراتيجيات بحث تصفية الاستعمار: دروس من تصفية الاستعمار وأبحاث السكّان الأصليين في نيوزيلندا وأميركا اللاتينية" (مجلّد 2، العدد 1، 2013).
ومقالة "ماذا تعني تصفية استعمار الفن بالنسبة لي؟" للفنّان كالكدن آسيفا الذي تحدّث فيها عن صدمته الدائمة أمام "غياب الوجوه السمراء الشامل عن قماشة الرسم أو وراءها، على الأقلّ في ما يتعلّق بالمناهج الدراسية والمتاحف"، كما تحدّث عن جدارية أقامها بمشاركة زميله الفنان آلان آندريه تخليداً لذكرى المناضلة ساندرا بلاند الأميركية ذات الأصل الأفريقي، التي وُجدت ميتة في مخفر شرطة في تكساس بعد ثلاثة أيام من اعتقالها، بسبب مخالفة مرورية بسيطة (مجلّد 4 العدد 2، 2015).
لا تخلو هذه الأبحاث والمقالات من أفكار مضيئة تدلّ على خصائص تجارب كل شعب في مواجهة الاستيطان الاستعماري. كما نجد لدى ماجد شحادة وهو يستخدم المفهوم الخلدوني عن "محاكاة المغلوب للغالب" في محاولة فهم الحالة التعليمية في فلسطين، كمثل من أمثلة الهيمنة الغربية المعولمة عن طريق إنتاج المعرفة ونشرها. ويلخّص مقاربته بالقول: "إن تصفية استعمار المعرفة أكثر أهمية من تصفية الاستعمار سياسياً، إذا أخذنا في اعتبارنا أن الهدف الواقعي لتصفية الاستعمار هو وضع حد للاتكال على الغرب في المستقبل، الغرب/ المركز الذي يحافظ على هيمنته بإعادة إنتاج معرفته في كل أرجاء عالم الأطراف (العالم الثالث)".