القلبُ حاملُ أثقال
له بيتٌ، وشرفةٌ يسمع فيها الغناء
خصومُه ينعتونه بالكسول المتهتّك
أمّا أصدقاؤه فنظرتهم له تتقلّب كما يتقلّب السفّود على النار
بارعٌ في اليقظة وبارعٌ في النوم
له لكلّ فصلٍ لباس ولكلّ فمٍ ماء ولكلّ رعشةٍ ريح
عريه ظاهر
سريره تراب
وشمسه لا تغرب أبدًا
هو جنّة ذات عيون وأغصان
هو مديحٌ للبرية
الرجل يسمعه والمرأة تسمعه
فجره يولد من شفتي عاشق ولهان
اللصوص حملة نعليه
الواقفون ببابه لا يرجون الدخول عليه
ولا هم يرحلون
في جيوبه تستريح الرياح
والأستار جدائل من شَعره
نوره عنبر في صحن ماء.
■
يا شاعرُ لا تجعل الأنين ثقيلاً
ولا تسكبه على الحجر
امزجه إن استطعت بخمر واتركه في أوّل الخيبات
هذا طريق لا يسلكه إلا من رمى عقله في البئر
يا شاعرُ لا تسأل القطرة عن البحر
ولا تسأل الوليد عن المرضعات
فقط
العشق ما يجعل الجسد خفيفًا والجبل يرقص
إنْ رحلتَ عن لغتك لا أحدَ يسمعك ولو كان لديك ألف صوت
إنْ رحل البستانُ، سكتَ البلبلُ
الكلُّ يبحث عن قنّينة عطر
الكلُّ يردّد أغنية الطائر ِ
ويله مَن مضى حثيثًا إلى موته
ويله مَن خاصم النهر على مائه
طائرٌ بلا جناح، كيف يطير؟!
ظلمةٌ من أمامه وظلمةٌ من ورائه، أين يضع مرآته
المرآة نبيّة الوقت.
■
مَن نسي أنْ يُمسك بخيط روحه،
ضاع وانقلب حالُ كلّ ما يفعله
امضِ إلى بيته، خيوطُ الغزل كلّها بين يديه
لك أنْ تختار منها ما تشاء بقلبك ولسانك وروحك
مَن كان شمساً في قلب الظلّ، يقتربُ ويبتعدُ
كأنّه هلال، كأنّه خيال
فخاخ وفخاخ لا تنتهي
سِلْمُك خيال وحربك خيال
فخرك خيال وعارك خيال
الماء أشار إلى الظمآن حين رآه
الخمر أشار إلى السكران حين رآه--
اقترب يا رجل، انظر
إنّ رائحة كلّ حطب في دخانه
وإنّ الشمس تشير إلى الشمس
وإنّ الظلّ كالسّمَر جالب نوم
اقترب يا رجل، انظر
كيف في بيت الشمس
ينشقّ القمر خفيفاً كخيط عنكبوت
شمس العالم غريبة لا يشبهها أحد
شمس الروح لا أمس لها
وشمسك حملتها الخنافس إلى قمّة الكثيب.
■
صاحبُ الوقت ما حاجته لغدٍ؟!
لك شهواتك ولهم شهواتهم
اشتهِ ما شئت
ابحث عن اللون في البراري بعين يدك
ابحث عن اللون في البراري بعين حجر
إنْ أخبرتك:
أنّ الحمرة في الوردة ليست دماً
أنّ السُكر في العقل ليس جنوناً
لا تصدّقني أبداً!
■
كيف لا يهرب وقد رأى الموت عياناً!
لم يعد للأمنيات مكان على طاولة المطبخ
لم يعد للضحكات باب للرحيل
لم يعد للمطر كلمات على عتبة البيت
لم يعد للشوارع طعم الفصول
صار قلبه أعمى وصار لسانه أخرس
قُفلُ الباب، يُفتح من جهتين
واحدة آمنة وأخرى وراءها ذئبٌ أو أسد
يدك اليمنى لا تعرف يدك اليسرى إلا في ليل
الثوب في دولابه حارس غبار
الثوب على الجسد جسدٌ له مائة لسان
الثوب المنسوج من خيوط الذهب والفضة،
يتكلم بلسان الذهب والفضة
شوارعه فسيحة وآماله لها ألف باب مفتوح
الثوب الممزق، جُلّ ما يهب، صاعَ قمحٍ أو دانقاً هزيلاً
يدُكَ في حوض الماء لا تميّز بين ماء مالح وماء عذب
وعينك في حضرة الملك، لا تميّز بين عصا ساحر وعصا نبي.
■
للدنيا سلّمها وللسماء سلّمها،
دَرجٌ هنا ودَرج هنا
اختر أيّها يصلح بثبات قدمك،
وأيّها يأخذك إلى تلال وعرة شائكة،
يدفع بك إلى حروب، أنت فيها القاتل والقتيل
اختر ما شئت، فإنك فيما اخترتَ مقيم
هذا طريق الحيرة تسلكه الطيور النائمة
هذا طريق تسلكه البذور في المطر
هذا عمران العاشقين
هذا خراب العاشقين
انظر مليّاً، ماذا ترى؟
لن تخبرك المرآة ولن يخبرك البصر
لا تسأل النهر، كيف ترك منبعه وهو صغير السنّ،
ولا تسأله كيف جاء إلى مصبّه محنيّ الظهر خرفاً
الوجوه تتشابه، والأيدي تتشابه وكذلك تتشابه عيون الكائنات
ما غادرت كلماتك فمك حتى صارت نسيًا منسيًا
وما ألقى نظرك عينه على شيء حتى صار نسيًا منسيًا
لا يقين في فم ولا يقين في عين.
■
الوهم صرّة مغلقة على عتبة العمر
فكّ رباط الماء
فكّ أقفال البحر
فكّ أحجيات الكائنات
اجعلني عدوّك،
أكنْ عينك ويدك وسيفك
أكنْ الحقّ والباطل
أكنْ الفخاخ والصفير
أكنْ الغابة والحطّاب
أكنْ الماء والساقية
أكنْ السمكة والصيّاد
أكنْ أنتَ في غفلتك
أكنْ أنتَ في جبروتك
أكنْ أنتَ في موتك
اجعلني عدوّك
تبقَ على عرشك جالسًا.
■
البومُ على الأشجار، يترصّد
التائهين في الأسماء،
والغارقين في البحر الكذّاب
البوم يترصّد لوليمة سهلة
أو لجناح مكسور
أنْ تعرف مكر النفس شعرة شعرة
مثلما تعرف الفرق بين الوردة والكزبرة
الصدق مقيم في بيت الحيرة
الصدق حبّة رمل واحدة،
أما الكذب فكثبان وكثبان
أين المفر ونحن الطيور لا نصبر على جوع!
أهراء الصدق فارغة، الصدق لا يتراكم
أهراء الكذب مملوءة، الكذب يتراكم.
* عن هذه التجربة الجديدة يقول الشاعر الليبي عاشور الطويبي (طرابلس 1952) لـ "العربي الجديد": "هو مشروع أعمل عليه منذ أكثر من سنة، وأحاول فيه صياغة مثنوي جلال الدين الرومي شعريّاً، هو ليس ترجمة للمثنوي بل فيه من روح الرومي ما فيه". قبل هذه التجربة كان الطويبي قد نشر ترجمته لمختارات من غزليات ورباعيات الرومي تحت عنوان "غربال الروح" (منشورات الجمل، 2015).