في أمثولة ترد في رواية "الإخوة كرامازوف" يعود المسيح إلى الأرض في فترة محاكم التفتيش، فتقبض عليه الكنيسة وتحكم عليه بالموت حرقاً. عشية تنفيذ الحكم يأتي "المفتش الأكبر" ويخبر المسيح أن ليس لدى الكنيسة أدنى شك بأنه المسيح فعلاً، لكن حضوره يهدّد مهمتها، التي يقول المفتش وهو يشرحها: إن الإنسان يفضّل السلام وحتى الموت على أن تتاح له حرية الوعي، إذ لا شيء أكثر إغواء للإنسان منها، ولا شيء يجلب التعاسة والآلام أكثر منها.
الإنسان إذن مستعد للتخلي عن هذه الحرية مقابل يقين روحاني أو مادي. لنقل إن هذه الأمثولة قريبة جداً من واقعنا. وأنها قد تجيب على سؤال من نوع: لماذا تفشل المجتمعات العربية في التغيير؟ لماذا تخاف من الحرية؟ هذه الحالة ليست فريدة عصرها ولا تقتصر علينا، بل مرّت بها مجتمعات أخرى مثل الروسية التي يمثل دوستويفسكي أحد أهم منتقديها، ومثله غوته في "فاوست" إذا كنا سنتحدث عن المجتمع الألماني أيضاً.
في كتابه "كل ما هو صلب يذوب في الهواء" يرى الفيلسوف الأميركي مارشال بيرمان أن الحداثة تحوّل الإنسان إلى أداتها وموضوعها وتدخله في حياة من المفارقات والتناقضات، فالحداثة التي تجلب معها أدوات قوية ومؤثرة للإنتاج الصناعي والتغيرات الثقافية تجلب معها الخوف منها ومن هدم المجتمعات بشكلها المألوف وقيمها القديمة، بل وهدم صورة الفرد ببنيتها الآمنة واتساقها.
يبدو التغيير بالنسبة للمجتمعات العربية مثل صور جميلة لمدينة أوروبية تقلبها وتريد أن نعيش في مكان مثلها، لكنها رغبة تقتصر على الشكل والرخاء الاقتصادي وتستبعد التغير القيمي والاجتماعي والثقافي، فيما تتصوّر النظريات الاقتصادية أن المجتمعات في السوق الجديد ستشبه بعضها مع الوقت.
إننا أمام لحظة صدام كبرى ومروّعة إذن، يقرؤها بيرمان من خلال شخصية فاوست باعتباره تجسيداً لإنسان أصبح جزءاً من عملية الحداثة، لكنه مقيّد بالمجتمع التقليدي الراكد الذي يشدّه إلى الأسفل. بهذا يمثّل فاوست المثقف التقليدي من مجتمعات في طور التغيّر الاقتصادي، والذي ينظر إلى المجتمعات المتقدمة بمزيج غريب من العار والفخر، عار التأخر التكنولوجي والاقتصادي والطبي والمؤسساتي والديمقراطي وفخر التمسك بالقيم "الأصيلة".
تأتي الحداثة ومعها "الحرية السلبية" بتعبير إيريك فروم، أو تدخل المجتمعات في نفق من "الشذوذ والخواء وفقدان اليقين بالماضي" بكلمات دوركايم، وإن لم يقابل ذلك وعي بالحرية الإيجابية بحسب فروم أيضاً، فنحن في نفق من الغموض والشك يجعل مجتمعات بأكملها تسلّم للحلول الاستبدادية نفسها، ومن خلالها تستبدل المجتمع بشكله التقليدي القديم بكيان متسلط متمثل في الدولة أو في التمسك بأثقال قيم متقادمة أو اللجوء إلى التشدد الديني.
في الحقيقة، إننا بحاجة لمن يدرس العقد الاجتماعي المعاصر في المجتمعات العربية الإسلامية، وكيف أفضت لحظة الحداثة إلى لحظتي الاستبداد والتطرّف وإلى أي نفق آخر سيأخذنا الأخير.
اقرأ أيضاً: البريكاريا العربية والجحيم السياسي