هذا النص فاسد. أعي ذلك منذ وقت طويل، ربما من الوقت الذي كان هنالك طفل يمشي على أطراف أصابعه لأن أية همسة طويلة تصدرها الأرض من تحت قدميه كفيلة لإيقاظ "حمارة القايلة" لتخطفه. الوقت الذي يجعل الطفل منّا، يعشق مرآه ولا يتعب من حسابات رياضية لأنفه: قد طال إنش واحد وآه. أنهم أخبروه بأن من يكذب يطول أنفه كثيرا حتى يغدو برج مراقبة شأن بينوكيو.
أعي فساد النص من الوقت الذي أعطيت ليديّ حرية التجول في عراء جسدي، تمشطه وتنسى البسملة بغية العثور على كتلة لحمية ليس للجسد حاجة بها، وعليهم استئصالها فورا، وبمراتب حزن تليق بخبر كهذا.
هذا النص فاسد، ليس لسوداويتي، لكن ألما يستشر في ذهن تلاحقه ثعالب تعطش الخوف قبل الدم، وتربّي المحاذير في بركة من نفس متقطعة، لاهثة للأمان. هنا، في المسافة التي تنبّه قدمك من فخ لتستقر الأخرى في مصيدة، تتفتح ألف عين لتحرسك.
كلّما نسيت قول أحدهم انهدمت عليك قولة أخرى حارة مثل شمس تنتحب في جوفك وتسرج ظلمة استقرّت فيك: تذكّر أنا أكبر منك. ثعالب كثيرة يا الله، تلاحقني، كأنها نذرت كل خطاها لدروبي. كل عين لأجل حفظ الروح التي تسكنني، وكل لسان لأجل أن يشمت بي حين أسقط.
هنا لا يتعبون من خلق المحاذير، على العكس، تفرحهم اللحظة التي تكتمل فيها الخطوط الحمراء حول الشيء، مثلما لو أن رعبا يصر على أن الحياة بلا حذر مليئة بالسقطات والرذيلة. يقولون للطفل: تنشّف جيدا كيلا تمرض.
يقولون للمراهق: لا تسمح لغريزتك أن تقودك. وللشاب تُكتب على علب السجائر عبارات مثل "التدخين يسبب الوفاة " و"دخان التبغ يؤذي الجنين، وقد يؤدي لنقص الوزن عند الولادة" وللعجوز يقول لها ابنها الذي لم يمسك عصاة قط؛ هاكِ عصا كي تسندك، بينما يريح يديه على شاشة المحمول. كلهم على حق لأن المجرّب أعلم من غيره، والذي يخاف ويتحذر يسلم دون غيره.. لكن لا أؤمن بذلك أبدا... كل ارتقاء يسبقه سقطة غير محسوبة، فعلامَّ تطلقون المحاذير كأنكم تمتلكون أسباب الحياة، البقاء، النجاح، والسلامة؟
هذا العالم فاسد. وأنا، بدوري جزء من أركان الفساد، كم أود أن أبث عبر الأثير سوداويتي، وأخبر الجميع بأني أؤمن كثيرا بأن الحياة سوداء وقاتمة حتى على من يلوذ بالنصوص المقدسة بجميع أشكالها؛ شعرا ورواية ومقالة عند أول نازلة.
كم أود أن أبث عبر الأثير عويلي، وأطلقه حافي القدميين في شارع ساخن ومفترس. يا إلهي، نحن كائناتك الهشة، تحط علينا الغربان فننكسر، وتنصب من أمامنا الهواجس المحذرة فنتحطم أكثر بدلا من القوة، فامنحنا شيئا من القوة كي نعري أذهاننا منهم، أو فلتمنحني ملجأ يتسع لهذا النص فلا يرميه أحد الأوغاد إلى محرقة إيمانا منه بأنه يحميني ويحمي الآخرين من شروري!
كفى إذن، لن تظهر "حمارة القايلة"، لن يطول أنفي، ولن أموت لو نفثت دخاني بوجه الثعالب! لا أحد يموت من التدخين لكنهم يموتون من تضخم الكلام في أجسادهم، تخنقهم النظرات المعاتبة يا رب أكثر من الدخان. ليس وحده هذا النص فاسد، كان هذا النص شفيفا مثل نهر، كان هذا النص مرآة الليل وأنيسه الوحيد، يرى نمشه المضيء عبره ويسجل في جوفة فاتحة لقصيدة. كان النص شفيفا لكن ثمة سوداوية رسمتها الثعالب على حدوده.. فلم يتجاوز، وأصغى.. ففسد.
*كاتب من الكويت