تبدأ رواية الكاتب السوري عبد الحكيم شباط "شارع بودين"، الصادرة عن "دار الدليل العربي" في برلين مؤخراً، بتحذير من الكُتُب. وهو تحذير، لا ريب، له ما يبرّره. إذ يذكرنا الراوي بما كتبه برتراند راسل في هذا الصدد: "إن الكتب لا تحتوي إلا على سفسطة وأكاذيب وآراء، ربما كانت منطقية فقط بالنسبة لمن يعيشون في غرفة مكتبهم، ولا علم لهم مطلقاً بالحياة، ولكنها لا تستقيم بالنسبة لكل من يواجه هذه الحياة القميئة بكل ما فيها من خسّة، والتي لا يظفر فيها المحسن إلا بالعقاب، ولا يظفر فيها المسيء إلا بالثواب، والتي يحيا فيها صاحب الرذيلة بالرذيلة، فإذا مات، مات بها سعيداً مكرماً" (المذكرات، ج2).
لكنّنا، وطيلة رحلتنا مع هذا الكتاب، ندرك أن تحذير الراوي من الكتب لم يكن مبالغة أو عبثاً، ولربما ما كان يحتاج ليصدّر روايته الفلسفية، بما كتبه الحكيم البريطاني، لأن كتابه يعلّمنا أشياء كثيرة عن الحياة، ويبحر بنا في تفاصيلها الدقيقة.
إنه أشبه بـسيرة ذاتية ـ فكرية، وفي الآن نفسه يمتلئ بالمحاورات الفلسفية، التي تستعيد في هذه الرواية ألقها، كما أن القارئ يلحظ براعة تذكّرنا بروبرت موزيل، فيما يتعلق بالمزاوجة بين السرد والشذرة الفلسفية، بشكل لا يجعلها مقحمة من فوق، بل جزءاً لا يتجزأ من اللعبة السردية، ولكنه في الوقت نفسه يترك للحياة لغتها، لا يصادرها.
نتعرّف منذ البداية على الشخصية المحورية في هذه الرواية. إنه فيلسوف أو رجل احترف لوقت ما تدريس الفلسفة في بلاده، قبل أن يضطر لمغادرتها، من دون قدرة على مغادرة تعلّقه بالأفكار والكتب. يعود بنا الراوي إلى طفولته في قريته الصغيرة، ونتعرّف على ناسها وعاداتهم، على بؤسهم وفرحهم، وعلى خرافاتهم التي تذكّرنا بخرافات قُرانا في العالم العربي، والتي تشارك الناس حياتهم اليومية، بل وقد ترسم طريقة حياتهم ومماتهم.
ونقف أيضاً على بعض العادات القبيحة التي لم تكنسها يد الحداثة بعد، فنقرأ مثلاً: "قتل امرأة في قريتي لم يكن ـ غالباً ـ حدثاً جللاً بل يمكن تسويته ببعض المال، ولكن إن قتل أحد الذكور تشتعل القرية بنار الثأر، ولربما حزن أحدهم على فقد بعض بهائمه أكثر من حزنه على فقد زوجته. اليوم تغيّر الحال بعض الشيء، ولكن ما كسبته القرية بفعل الزمن خسرته دفعة واحدة بفعل جرائم الطغاة. نحن بنو البشر بعض آثامنا تجعلنا نخجل حتى من لعن الشيطان".
تطبع السخرية لغة الرواية، ولربما تكون السخرية شخصيتها الرئيسية، فنحن أمام رواية لا تبقي ولا تذر، ولا تتهيّب من قول الحقيقة مهما كانت مؤلمة. فالراوي الذي عاش نصف حياته تحت حكم الطغاة، مثل كل المهجّرين العرب في أوروبا، عانى ويعاني الأمرّين، لاجئاً في بلاد غريبة، هذا الراوي يُدرك أنه لم يعد له شيء آخر ليخسره، وأنه لم يكن له شيء يخسره، ويشعر القارئ كما لو أنه قد أدرك، هو الفيلسوف، أن مهمة الكتابة، أي كتابة، هي أن تقول الألم. ولربما هذا ما يضطّر الراوي ليسقط أحياناً في المباشرة.
لقد نجح الكاتب في وصف مجتمع الهجرة العربي في برلين، بشكل مذهل، ونقف من خلال أحداث الرواية على أنه عانى الأمرّين داخل هذا المجتمع، وعاين تناقضاته من الداخل، كما عاين استشراء أمراضه، واستمرار ثقافة الطاغية في المنفى، وهي مشاهدات تدفع للتشاؤم كثيراً حول مستقبل الهجرة العربية في أوروبا، كما لو أننا في هروبنا من الطاغية، لا نهرب إلى الحرية، ولكن إلى طاغية آخر، أو كما لو أننا نهرِّبه معنا في عقولنا.