تتعدّد الأسباب، لكن النتيجة واحدة؛ لا حماية تفرضها التشريعات للفضاءات الثقافية في معظم البلدان، حيث أغلقت في أيلول/ سبتمبر 2017 "مكتبة البلد" في القاهرة لأن فعالياتها لم ترق للسلطة، وقبل ذلك هُدم "مسرح تاجوج" في مدينة كسلا السودانية ليتحوّل إلى مجمّع تجاري، وهو المصير ذاته التي لاقته "سينما جنين" أواخر عام 2015.
الأمر تكرّر مع "سينما ستارز" في النبطية، التي جرى إحياؤها بعد ربع قرن من الإغلاق، لكن تحالف رأس المال هذه المرّة مع قوى سياسية تعادي الفن دفع إلى شراء المبنى لتحويله إلى مشروع استثماري. وفي دول تشهد اقتتالاً داخلياً يُغلق مسرح، وتُطرد فرقته بقوة السلاح الذي تمتلكه إحدى المليشيات، كما حصل في مسرح "الكشاف" في العاصمة الليبية.
في الأردن لا تبدو الحالة مختلفة، حيث تحفل الذاكرة الشعبية بجملة حوادث مشابهة نتيجة بيعها من قبل أصحابها أو رغبتهم في تحقيق إيرادات مادية أكبر، ولأن القانون لا يصنّف هذه الممتلكات ضمن المعالم التراثية حتى لو مضى على تأسيس بعضها حوالي مئة عام، فإنه يقف عاجزاً إزاء تلك التغيّرات التي تمسّ المدن وتشوّه ملامحها.
في الماضي القريب، أُغلق مقهى "الجامعة العربية" و"حمدان" في وسط عمّان، وكذلك عدد من قاعات السينما التي تعود إلى النصف الأول من القرن العشرين. اليوم، ومع صدور قرار قضائي تمّ إخلاء "مسرح البلد" لصالح مالك العمارة بعد أن رفض تجديد عقد إيجار المبنى الذي أُبرم مع المالك السابق عام 2002 وانتهى في عام 2017 رغم محاولات تجديد العقد لضمان استمرارية العمل، وإيفاء المسرح بكافة التزاماته كمستأجر.
مبادرة "مسرح البلد" قامت على فكرة تحويل "سينما الأردن" (سينما فرساي سابقاً) التي تأسّست عام 1948، ليفتتح باسمه الجديد في شباط/ فبراير 2005، في سعي لاستعادة هوية المدينة القديمة التي كانت تستوعب العديد من الفضاءات الأهلية، بإدارة الفنان رائد عصفور.
في حديثه لـ"العريي الجديد"، يقول عصفور: "في ظلّ عدم وجود تشريعات تحمي الفضاءات الثقافية الأهلية، فإنها تبقى الحلقة الأضعف أمام تغوّل أي سلطة عليها، ناهيك عن أنها تحظى بدعم قليل، إما لأنها تشكل صوتاً لا يفضّل سماعه أو لاستقلاليتها"، مشيراً إلى أن "عدم انتمائها إلى المنظومة الرسمية، يجعل المسؤولين غير مكترثين بمصيرها، بل إنهم قد يجهلونه تماماً".
يلفت عصفور إلى أن "هناك حواراً مع ناشطين وحقوقيين من أجل الدفاع عن مستأجري الهيئات الثقافية الأهلية في وجه القانون الذي يراعي حقوق المالكين فقط"، مبدياً أسفه حيال التكاليف التي تصل إلى مئات الآلاف، والجهود التي بذلها ويبذلها آخرون من أجل ترميم مبانٍ وإعادة إحيائها لتذهب في نهاية المطاف أدراج الرياح، على حد وصفه. وتذهب سدى.
في الوقت نفسه، يؤكد على سعيه للاستمرار ضمن مساحة لا تخضع لاشتراطات المؤسسة الرسمية والرقابة، وتكون متاحة للجميع، موضحّاً أنه "سيبقى في وسط البلد وأن البحث لا يزال جارياً عن مكان مناسب"، وبموازاة ذلك يواصل العمل من أجل فتح حوار مجتمعي وإطلاق حملة من أجل الحفاظ على هذه الفضاءات، وأن لا يظلّ الفنان مضطراً للهجرة إلى الخارج بسبب تغييبها.
يختم عصفور: "نسعى لتعديل القوانين الجامدة التي تتجاهل حق الإنسان في الثقافة، وليكن مسرح البلد آخر الضحايا".
يذكر أن المسرح أقام خلال ثلاثة عشر عاماً مضت، مئات العروض الموسيقية والفنية، وعدداً من المهرجانات السنوية المنتظمة، منها "مهرجان حكايا" الذي استقطب عروضاً حكواتية ومسرحية عربية وأوروبية، و"موسيقى البلد" الذي يحتضن فرقاً تنتمي تجاربها إلى الموسيقى البديلة، و"مشروع بلدك لفنون الشارع" الذي يتخصّص في الغرافيتي.