يستطيع أي دارس لظاهرة الاستشراق في علم الآثار، ملاحظة أن ما قدّمه الباحثون العرب (باستثناءِ قلة تعرّضت للتجاهل والجحود) في نطاق علم الآثار، أو التاريخ الذي يستند إلى عاديات علم الآثار، نصوصاً وقطعاً أثرية وآثاراً معمارية؛ لا يكاد يمثل حصيلة أساسية ومؤثرة في هذا الحقل، سواء تعلّق الأمرُ بعلم الآثار بعامة أو بعلم آثار المنطقة العربية بخاصة.
ومع مواصلة البحث والمقارنة والتنقيب في المصادر الغربية، وخصوصاً في الكتب والدوريات المنشورة باللغة الإنجليزية، أو المترجمة إليها من لغات غربية أخرى، يتبيّن للدارس أن أقصى ما يتمكن منه خطابُ الباحث العربي التقليدي -بعد أن تمكّنتْ منه وتحكمت به سيناريوهات تاريخية تقليدية تستند إلى الأساطير لا إلى حقائق عن الآثار واللغات والجغرافيا الطبيعية والإنسانية-هو أن يقتنص فرصةً ما تتيحها له مقولة "إسرائيلية" أو "غربية" تعترف بوجود "عربي" أو شبه وجود في هذا التاريخ الطويل. فينتشي وهو يقلب هذه المقولة ويطرب لها من دون أن يسأل نفسه عما قدّمه واكتشفه هو.
لهذه الأسباب (ومن خلال تجربة بحثية لكاتب هذه السطور استغرقت ما يقارب 25 عاماً)، نجد استعداداً لدى بعض الباحثين العرب للغوص فوراً في المياه الضحلة، مثلما حدث منذ وقت قريب مع حكاية اعتراف علماء آثار "إسرائيليين" بأن مدينة القدس الكنعانية أقدم بكثير مما تخيّله الذين بنوا تاريخهم على أساس روايات شعبية توراتية ليست من التاريخ في شيء، وأن هناك بالفعل "اختلاقا" لشعب اسمه "شعب إسرائيل" كما أظهر الباحث "الإسرائيلي" شلومو ساند (2008).
والحقيقة التي ما تزال خارج تداول الباحثين العرب، وألحَّ عليها باحثون من أمثال الأميركي توماس تومسن في كتابه "التوراة في التاريخ: كيف يخلق الكتاب ماضياً" (1999)، والإسكتلندي كيث وايتلام في كتابه "اختراع إسرائيل قديمة وإخراس التاريخ الفلسطيني" (1996)، ليس قِدَم ورسوخ الحضارة العربية الكنعانية فقط، بل والبدء بدراسة آليات خطاب الاستشراق في علم الآثار بالذات، وتحليل سرّ سطوته التي فرض بها صورة متخيّلة للتاريخ القديم استمدها من مرويات توراتية لم تعد، باعتراف غربيين، مؤهلة لتكون تاريخاً، ليس في ما يتعلق بفلسطين فقط بل وفي ما يتعلق بالوطن العربي ككل، مع ما رافق هذا من اختلاق لنقوش وعاديات يعرف جامعوها قبل غيرهم أنها ملفّقة.
وفي الوقت الذي بدأ فيه تحوّلٌ مهم في الأوساط العلمية، أخرج ما أشاعه هذا الخطاب من دائرة التداول، نجد أن مأزق ما يسمّى "علم الآثار التوراتي" ما زال بعيداً عن عناية الباحثين العرب ووعيهم، بل ما زالوا غارقين في تكرار مقولاته وتسمياته وفرضياته كحقائق مسلّم بها.
مأزق هذا النوع من "العلوم" الذي ينطلق من رؤيا ثابتة ويسعى إلى هدف لا يحيد عنه، ولا تهز فرضياته ومسلماته مكتشفات جديدة أو مناهج نظر جديدة مهما بلغت درجة علميتها، وحتى لو قوّضت مزاعمه، يشبه مأزق إنسان يكتشف بعد تنقيبات مضنية قطع صورة أو شظايا صورة، فيحاول تجميعها مفترضاً أنها تطابق صورة مذكورة في أسطورة أو خرافة من خرافات عائلته، وحين يتجاوز الافتراض كل الممكنات ويتحوّل إلى إيمان، يصبح عدم انطباق صورة الشظايا المجمعة على الصورة العائلية مأزقاً، فيوجّه هذا الإنسان جهده نحو إعادة تأويل وتفسير صورة الشظايا العنيدة التي لا تستجيب لصورته العائلية المتوارثة، فيذهب إلى تزوير شظايا ملائمة، وتخيّل ما لا تقدمه الوقائع الملموسة أمامه، أي ما هي عليه صورة الشظايا.
ما لا يدركه أكثرُ الباحثين، العرب وغير العرب، أن تعبير "الحضارة الإسرائيلية" هو نتاج خيال خصب لا نتاج آثار ملموسة. وهو ليس سوى عبارة شائعة في خطاب الاستشراق التوراتي، لا أساس له من واقع تاريخي، أي إن القائلين به لا يستندون إلى مكتشفات أثرية، بل إلى حكايات وأقاصيص طابعها أسطوري.
وحين ذهبت الباحثة نادية أبو الحاج إلى ما يسمى متحف هذه "الحضارة" في القدس، وجدت متحفاً خيالياً، أي أن كل موجوداته إنشاءات بأدوات أشعة الليزر والرسوم الجرافيكية، وسجلت هذا في كتابها "وقائع على الأرض" الصادر عن جامعة شيكاغو بعد مماطلات وعراقيل في العام 2001.
ولا يخفى على أبسط إنسان أن الحديث عن حضارة مصرية قديمة مثلاً، يستند إلى شواهد مادية هائلة، من نقوش ومبان وكتابات وتماثيل ومدافن ..إلخ. وحين نتحدث عن حضارة عربية إسلامية، فلدينا ما يدل عليها من آثار مادية ملموسة، وكذلك الأمر بالنسبة للحضارة الهندية أو الصينية وغيرها.
ولكن حين نسمع عن "حضارة إسرائيلية" لا نجد بين أيدينا شيئاً، بل نجد مجرد تعبير لفظي يختلق "وجوداً" لم يكن له وجود، تماماً مثلما اختلق خطاب الاستشراق التوراتي "دولة إسرائيل قديمة" في محاكاة لدول عصر النهضة الأوروبية المعاصرة على حد تعبير كيث وايتلام.
إذاً، الأمر في حقل علم الآثار والمعارف الجديدة أوسع بكثير من مجرد اعتراف "إسرائيليين" بقدم القدس الكنعانية أو أسبقيتها، فما تكشف عنه التنقيبات المتواصلة من منتصف القرن التاسع عشر حتى الآن هو سيادة الطابع الكنعاني العربي في أرض فلسطين، منذ نشأة المدن والاستقرار الحضري فيها، وصولاً إلى عصر الهيمنة الرومانية، أي انتفاء وجود أي طابع حضاري آخر في هذه المنطقة من العالم في الألف الثالث والثاني والأول ق.م.
لقد كانت عملية زج "حضارة إسرائيلية" متخيلة زجاً ناجحاً في هذا السياق التاريخي، أمراً ظل عصياً على علماء آثار كثيرين ومؤرخين، وهو ما دفع بعضهم إلى التسليم آسفاً بأن معطيات علوم الآثار واللغات والتاريخ والجغرافيا الطبيعية والإنسانية لا تسند الحكايات التوراتية، سواء القديم منها، أو الحديث. تلك التي يختلقها الصهاينة، جاهدين، أو يقومون بمحاولة أكثر تشويهاً للواقع من خلال إزالة الآثار الفلسطينية وتدميرها وإنشاء آثار مختلقة تحل محلها، وإطلاق أسماء عليها.
إن المتابع لأعمال الآثاريين والفضوليين يلاحظ ظاهرة تتكرر مرة بعد أخرى؛ إذ يندفع أحدهم، ومعه الصحافة و"علماء" متخصصون بالتلفيق والتخيل، نحو نسبة هذا الأثر أو التل أو المبنى إلى حدث أو حكاية توراتية، ولا يسلم من هذا أكثر المتخيلين شهرة بكشوفه المثيرة من أمثال الأميركي وليم فوكس أولبرايت، ثم يتم تقويض ما تخيله ولفّقه على أيدي علماء أكثر دقة وصرامة بعد أن تكون الكثير من المغالطات قد تسرّبت للمعطيات التاريخية المتداولة.