في مصر الرسمية المنكفئة على نفسها قبل الثورة، كانت المؤسّسة الثقافية قد أغلقت أبوابها في وجوه المبدعين الشباب، فأصبحت المنابر الإعلامية أشبه بـ "تكايا" لأصحاب الحظوة، حتى أن بعض الكهول أشرف على صفحات أدبية لسنوات طوال؛ لم يَنشر فيها قصيدةً لأحدٍ سوى نفسه.
كان الشباب يتعاطون الأدب "خلسة"، بعيداً عن المؤسّسات الفاسدة والمتكلّسة، وهو ما لخّصه مرة الشاعر والصحافي هشام محمود: "الواقع الثقافي أكثر انحطاطاً من الواقع السياسي والاجتماعي، والمثقّفون الدواجن ممّن يلهثون وراء مكاسب يحقّقونها، سواء أكانت مناصب أو أسفاراً أو جوائز أو ترجمات أو منح تفرّغ، إنما هم أهم أسباب انحطاط هذا المجتمع، لا ينافسهم في هذه المكانة إلا الخَدَم من رجال الدين".
في المقابل؛ كانت المجالس الخاصّة مساحة للحريات الأدبية. وكلما زادت جرعة المواجهة، زاد انتشار الأدب، حتى لو كان محظوراً لسبب أو لآخر. هناك، تناقل الأدباء الشبّان أشعار مظفّر النوّاب ونجيب سرور، وغيرهم من أدباء قاموا بتكسير تابوهات السلطة المستبدّة.
يصحّ القول أن كل من تغنّى بالحرية بعد 25 يناير لم يكن سوى صدى صوت آمِنٍ لمن تغنّى بها قبل ذلك التاريخ. شهر يناير ذاته كان أيقونة ثورية سبقت 2011 بـ 35 عاماً؛ إذ يعود حضوره الأدبي إلى 1977، حين ثارت الجماهير وخرجت إلى ميدان التحرير في 18 و19 كانون الثاني/ يناير، في ما عُرف باسم "ثورة الخبز"، وحين قضت قوّات الأمن على الثورة وألقت بالثوّار في السجون، لم تخمد جذوة الأيقونة، ويومها كتب أحمد فؤاد نجم:
"كلّ ما تهلّ البشاير/ من يناير كل عام
يدخل النور الزنازن/ يطرد الخوف والظلام
يا نسيم السجن ميّل/ ع التعب وارمي السلام
زهّر النوّار وعشّش/ في الزنازين الحمام"
ظلّ توجّه الأدب الثوري منصبّاً على نقد الوضع القائم، وبات التطلّع إلى التغيير حلماً في أعين الشعراء والكتّاب. في بعض الأحيان، كانت السخرية المرّة وسِيلتهم في التعبير عن بطش السلطة وضعف الشعب. في قصيدته "بتجري ورايا ليه يا بوليس"، تحدّث صلاح عبد الله عن تأثير الدولة البوليسية على المجتمع، وحال المواطن المقهور الخائف من ظلّه، حين تدفعه هواجسه إلى الظنّ بأن شرطياً يطارده:
"أنا في حالي
ما ليش في الدنيا صوت ولا جسم
دا انا ناقص إذ قرّبت لمراتي
أجيب تصريح يا ناس م القسم
وادلدل راسي وأوطّي
وفي الصيف بامشي متغطّي
وأقوم من وسط أي جماعة بتعارض ولو إبليس!".
كما كتب هشام محمود ديوانه "في المستقبل القريب جداً"، مشخّصاً حالة الانحدار التي يعيشها الكون في ظل غياب العدالة، حين يقول:
"في المستقبل القَرِيب جدّاً
سيكون من حقّ الحيتان،
والتماسيح، والذئاب، والعقارب
تشكيل حكومَات ائتلافية
وسوف تقود الكِلاب مُظاهرات
تهتف بحياة الرئِيس
عندئِذ.. سيَنبح الأطفال في طوابير الصباح
دقّت الساعة الحاسمة".
وحين هلّت الثورة، ظهرت مجموعة من الشعراء الشباب، كانت أسماؤهم مطمورة تحت أنقاض السلطوية الإعلامية، وكان حديثهم عن "يناير" تعبيراً عن أحلامهم السابقة بوطن حقيقي يحمل الخير لأبنائه. وقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي أكثر رحابة لنشر إبداعاتهم.
كان الخوف من المصير المظلم لثوّار التحرير لو أنهم أُحيط بهم؛ ملهباً للمشاعر. آنذاك، كتب الشاعر ضياء الكيلاني:
"في مصر شبِّتْ على رموشها العيون السُّمْرْ
تطـالِع الصُّبح: طالعْ، والّا مش طالعْ
الناس في عزِّ الشِّتا خارجة بربيع العُمرْ
فيها اللي راجعْ بعمره واللي مش راجِعْ".
الكيلاني ملحنٌّ موسيقي وشاعر، تجمع دواوينه بين الفصحى والعامية.
الشاعر تميم البرغوثي واحد ممّن تفاعل مع الثورة مبكّراً، حين كتب قصيدة "يا مصر هانت"، والتي لحّنها مصطفى سعيد أيام الثورة، فكانت من أكثر ما تردّد وقتها:
"يا مصر هانت وبانت كلّها كام يوم
نهارنا نادى ونهار الندل مش باين
الدولة مفضلش منها غير شوية شوم
لو مش مصدّق تعالى ع الميدان عاين
يا ناس مفيش حاكم إلا من خيال محكوم
واللى حيقعد في بيته بعدها خاين".
كما كتب منتصر ثروت القاضي قصيدة بعنوان "عهد الرمادة" قال فيها:
"لَكُم ويلُنا ولنا ماكَنَزْتم / ولا يَزْهَقُ الحَق مهما قَصَا
فإن أَغْدَق الدهرُ يومًا عليكم / فقدْ أَمَّم الدهرُ ما خَصَّصا
فيا باطلاً كم علا صوتُهُ / صَهٍ الآن فالحَق قد حَصْحَصا".
بعد يناير 2011، كان مصطفى إبراهيم ضيفاً على العديد من القنوات، قبل أن تُدير له ظهرها بعد "30 يونيو"، وكانت قصيدته "فلان الفلاني" من بين القصائد الأكثر شهرة، وهي تصف الجندي المجهول من ثوّار التحرير، الذي ضحّى من أجل وطنه بلا مقابل:
"فلان الفلاني اللي كان يومها جنبي / ساعة لما بدأوا في ضرب الرصاص
فلان الفلاني اللي معرفش اسمه / فدايما بقول يا "ابن عمي" وخلاص"
الجامعات المصرية التي دخلت المدوّنة الشعرية النضالية من خلال أغنية الشيخ إمام "رجعوا التلامذة"، أوصل صوتها خالد سليم، الذي كتب:
"صوت الشهيد عورة / صوت السجين عورة
ويا مَكتَر الكارهين / للشُهدا والثورة
صور الهِتاف ممنوع / صوت الغُنا ممنوع
صوت الرُصاص وحدُه / هوّ اللى بقى مسموع".
يبدأ سليم وجيله بالتمهيد للثورة من جديد، مرتدياً سترة الصدام التي ارتداها من قبله مبدعون مناضلون:
يا أيها الساكتين على الحاصِل فـ شوارعكو
اللى قتَلنا.. بُكره يقتلكوا
وهيبقى فات الآوان لـ كلمة "لأ"
دا الظُلم زي الموت.. هيزور سرايركو".
كثيرون هم الشعراء المصريون الذين يدفعون اليوم ضريبة مبادئهم؛ اعتقالاً وهجرة وتجاهلاً. الشاعر الإسكندري عمر حاذق عانى من تجربة السجن بعد اتهامه بالتظاهر في ما عُرف بـ "وقفة خالد سعيد". وعندما خرج مؤخّراً، مُنع من السفر إلى هولندا لتسلّم جائزة "حرية التعبير".
أما هيثم زهدي، عضو "رابطة أدباء الحرية"، فلا يزال في السجن، حيث أُلصقت به تهمة "الانضمام إلى تنظيم إرهابي"، بعد سنة كاملة من الاعتقال دون اتهام. في حين فرّ مسعود حامد إلى خارج البلاد بعد أن كتب ديوانه "أربعة أصابع" الذي تعالج قصائده جميعاً مأساة فضّ رابعة والنهضة.
اقرأ أيضاً: كيف أسس عام 1487 لإفشال الثورة المصرية؟