بيت طيني قديم في قرية الكفير بجنوب لبنان، أصبح اسمه "بيت طيور أيلول"، إنه منزل الطفولة الذي عاشت فيه الروائية اللبنانية إملي نصر الله (1931-2018) التي رحلت في آذار/ مارس الماضي، وقد تحول إلى مكان مخصص للإقامات الفنية.
وكانت عائلة الراحلة أعلنت قبل أيام أنها "أرادت قبل وفاتها أن يُرمّم ويفتتح للعامة كملتقى ثقافي مخصص للإقامات الفنية والأدبية، ولمن يريدون البحث والعمل والكتابة حول ثيمة موضوع الهجرة التي شغلتها".
نصر الله بدأت في مشروع البيت قبل رحيلها، وأكملت العمل ابنتها الطبيبة مها بعد ذلك، مع المحافظة على الطابع القروي والشخصية التقليدية للبناء.
كان البيت حاضراً بتفاصيله وحميميته بوصفه ملاذاً في رواية نصر الله الأولى، وقد اتخذت منه رمزاً مقابلاً لفكرة التنقّل والهجرة. وإن كان كثيرون اعتبروا أن أدب نصر الله ينتقد الهجرة بشكل ما، لكنّ الأدق أنه كان يفكر فيها، يجرّبها كضرورة للتغيير والانتقال ويختبرها كألم ناتج عن البعد والتخلّي، فنحن في "طيور أيلول" أمام فتاة عالقة في تقاليد القرية وتحلم بالتعليم، الذي سيقودها إلى المساومة النفسية الكبرى بين أن تبقى في حضن العائلة أو تخرج إلى العلم وتحقيق الأحلام التي راودتها.
إذا فكرنا بمؤلفة "أين نذهب" كـ كاتبة في أدب الهجرة، فإننا سنجد روائية قامت بهجرتها داخل الأدب نفسه أيضاً، فتغير أدبها بعد وقوع الحرب الأهلية والانتقال إلى المدينة القاسية، وبعد أن كانت تكتب عن تلك الأحلام البسيطة سنقرأ لها في "خبزنا اليومي" قصص الحرب والفقدان واختبار نوع مختلف من العذاب والخوف لم يكن موجوداً من قبل.
في هذه المجموعة القصصية خاصة الجزء الأول منها "تسجيل القصف المباشر بالكلمات" تنتهي الشخصيات في كل القصص بالموت، مقتولة غالباً في انفجار أو على يد قناص أو على حاجز.
وربما تفاجئنا شخصية الكاتبة في قصة "انفجار" حيث تسجل ذاكرة جسد امرأة لحظة التشظي، فنجد جثة تصف لنا كيف تتفتت بعد أن انفجرت فيها قنبلة، تنهي كلامها: "اعفوني من متابعة الكلام، فالشفة انفصلت عن الشفة، والأوصال تقطعت وتطايرت وبعض منّي احترق، وتحول إلى فحمة سوداء".
لا يمكن إلا أن نتفاجأ بإملي الرقيقة التي كتبت عن الحب والفراق في "طيور أيلول"، كيف طوعت لغتها لتسجيل ذاكرة ضحية تتعرض إلى مجزرة لحظة وقوعها، هذه هي الهجرة النفسية والإبداعية الصعبة التي قامت بها نصر الله والتي أرغمتها عليها الحرب؛ والمفارقة أن يحدث ذلك دون أن تفقد البساطة في لغتها، تكتب مثلما يعيش فلاح ببساطة وعفوية، غير أنها كتابة لم يفارقها الجمال والذكاء والألم.
هاجرت نصر الله، أصبح بإمكان القارئ أن يتعرف على إملي بيروت المختلفة عن إملي القرية؛ وهي هجرة لغوية وأدبية من نوع خاص، وعت صاحبتها لعمق تجربة الانتقال، وربما لهذا خصصت البيت للباحثين عن التفكير في الهجرة والكتابة عنها، إنها تمنحهم فرصة الانتقال من المدينة إلى القرية في هجرة عكسية لتجربة الكتابة.