كان اسم مادلينا الاسم الأكثر حداثة في القرية، وفي دائرة نصف قطرها عشرة كيلو مترات لن تجد عجوزاً واحدة تستطيع نطقه من المرة الأولى، كان والد مادلينا قد التقط هذا الاسم حين كان شاباً صغيراً في عدن.
في أول وآخر ذهاب له لسينما "هريكن"، حيث شاهد مبهوتاً الجمال المرعب لشابة أوروبية بالأبيض والأسود لم يكن لجسدها عيب واحد، تمايلت الفتاة على رمل شاطئ ما، ثم انتصبت في بدلة سباحتها، وحين ناداها رفيقها بـ "مادلينا"، عرف الشاب أن ابنته البكر ستكون مادلينا، والتي لم تعرف هذه الحكاية أبداً، كل ما عرفته أن اسمها كان يجلب لها شهرة من نوع خاص، ويضفي عليها جمالاً حتى لو لم تكن بذاك الجمال، خطّت دوماً عينيها بالكحل من المكحلة التي يبلغ عمرها عشرين عاماً على الأقل، والموضوعة أبداً في الكوة مع مرآة صغيرة، كانت عبارة عن جزء من مرآة أكبر انكسرت وأنقذت تلك القطعة التي لم يكن لها شكل محدّد وتشبه رسم جزيرة، وبها تستطيع مادلينا وأمها وأخواتها وعمتها مشاهدة العين التي مرّ عليها عليها "ميل" الكحل وجزء من الخد، ولأنه لم يكن في القرية أحمر شفاه في الأيام العادية، لذا لم يكن من الضروري أن تنظر النسوة لشفاههن، لكن حين وصلت ماركة "سيدتي" وكانت مادلينا في السادسة عشرة من عمرها طالبت فوراً بشراء مرآة أكبر، جلبها أخوها وكانت زرقاء بشكل دائري، تقاسمتها مع أخواتها بأن ثبتن مسماراً ضخماً ثم علقنها عليه.
في التاسعة عشرة وثلاثة أشهر تزوجت مادلينا، بسبب شهرة اسمها، في إحدى الظهيرات وبينما جميعاً يسترخون في فترة بعد الغداء والفتيات يعدن ضبط كحلهن وشعرهن، فوجئن بسيدة مسنّة تقتحم خلوتهن، ولأن أبواب دور القرى لا توصد غالباً في النهار، يصبح من السهل على الغرباء اقتحام المنازل بهدوء وروية، ثم قوْل: يا أهل الدار! بصوت عالٍ، في حالة أن المنزل كان داراً من طوابق متعدّدة، انتفضت الفتيات، وهرعن إلى الدرجات شبه المظلمة، كانت عجوزاً في الستينيات، محدودبة قليلاً، مررت "ميل الكحل" على الأقل ثلاث مرات في عينيها، فبدتا كحيليتن كباندا صغيرة، ابتسمت بألفة واستأذنتهن إن كانت أمهن في المنزل.
بعد ساعة كانت العجوز تتفحص مادلينا وكأس الشاي بالنعناع الذي قدّمته مادلينا وبجانبه أربع حبات من بسكويت ماري وقطعتين مثلثتين من الطحينية، وبنظرة من يشتري بضاعة، جالت عينا الباندا في جسد مادلينا، وزنت صدرها ووركيها، لون شعرها ونوعه، مساحة كفيها وحناء أظافرها، وبشكل أهم استمعت بشكل دقيق لطبقة صوتها، ولمستوى ضحكتها التي كانت مادلينا تداريها من الانفجار، كان قلب مادلينا بدق بعنف وهي تعرف ماذا يعني كل هذا، وأمها ما تفتأ تعطيها التعليمات بطرفي عينيها، وأخيرا همست العجوز للأم أنها تريدها على انفراد، تغامزت الفتيات وعمتهن ثم غادرن الغرفة مصدرات ضجيجاً مختلطاً، كدجاجات آوين إلى قنهن.
لمدة سبعة أشهر، حملت مادلينا "دبلة" ذهبية في يدها اليمنى، ولم تكن أكثر فخراً بنفسها من تلك المرحلة، كانت تمارس حياتها اليومية الاعتيادية لكن بشعور الانتصار، وفي صندوقها الحديدي المغلق، كانت تحتفظ بجانب ملابسها الجديدة ومبلغ ألف ريال، أيضاً بهدايا الخطوبة: ساعة بلون ذهبي، فستان سماوي اللون بأكمام عريضة، قنينة عطر صغيرة جداً، "مقرمة" زرقاء قطنية، وصورة 4*6 لشاب حليق في البذلة العسكرية، وكانت تلك أغلى هداياها على الإطلاق، وفي كلّ مرة تفتح صندوقها العابق برائحة البخور والملابس المعتقة، تنظر إلى الصورة فيخفق قلبها، وتتصاعد الدماء إلى رأسها، وتحسّ بالفورة النارية لشابة في الثامنة عشرة.
كانت تصطاد الفتيات حديثات الزواج، كي تسألهن كل ما يجول في خاطرها، وتبقى تحمل سلّة أسئلتها التي تكبر كلما تلقّت إجابة وسمعت قصة، فالإجابة تخلق سؤالاً والحكاية تصنع خيالاً جديداً، كانت سلّتها عامرة دوماً، تنام بجانبها في الليالي، ولا تفارق كتفها في النهارات، وبابتسامتها البريئة المتصنعة، تغازل الفتيات حديثات الزواج، ثم تمتص حكاياتهن، وتمارس عليهن ألاعيبها كي يخبرنها بما لا يجب أن يخبرنها به، ولطالما تعارضت الإجابات لكن هذا كان يزيدها إثارة، فتمضي قدماً في خيالات كانت غالباً ما تناقض بعضها، لكنها لا تصطدم ولا تشوّش عقل مادلينا المشتعل.
كانت مادلينا مؤمنة بجمالها، رغم أنها لم تكن كذلك، لم يخبرها أحد أنها غاية في الجمال، لكن قوة حضورها وسيطرتها، خلق لديها الانطباع أن السحر كان مصدره جمالها ولا شك، لم تكن لتغادر البيت قبل أن تخطّ عينيها بالكحل، ثم بحركة ماهرة، كانت تستخدم مشطها الصغيرة وتقبض على غرتها الطويلة التي لم تكن ناعمة لكنها ليست جعداء، تنزل على جبهتها ثم تطويها إلى أعلى وتثبتها بدبابيسها الملونين، فتتشكل الغرة وتعطي جبهتها وعينها اليسرى منظراً جذاباً، وحين تطوي حجاباتها الملونين، كانت تحرص على أن يكونا ثابتين من دون حراك حتى لا تتدمر الغرة المطوية، وكلما أعادت فتحها وتثبيتها كانت تحرص على أن تشاهد رفيقاتها عنقها الدقيق وصفاءه الخمري.
كانت موضة فساتين القرية تسمح برسم أجساد الفتيات، ينقسم الفستان دوماً عند الخصر، فيحدد دائرته كاملة ويعطي منطقة الصدر حريتها بالكتمان أو بالاندفاع، ويسترسل الفستان بالأريحية نفسها، ودوماً ما تنتصر الفتيات الأكثر امتلاءً، بحيث يتباهين دوماً بما حباهن الله من النعم، بأن يقفن على حواف المدرجات الزراعية منتصبات بأبهة، مدليات بتعليقاتهن حول الحشائش والزرع ومواسم الحصاد، والرعاة المؤذين الذين لا تسلم المدرجات من من غزوات أغنامهم، معطيات للرائي المنظر الكامل للجسد المتشكّل تحت الفستان، وكانت مادلينا هي الفتاة التي تتنازع مع كل أخرى تشبهها على النجومية، وكانت تتصنّع كأنها تؤدي دوراً معيناً سيتنهي، ولطالما أعتقدت أن الدور سينتهي بالخطوبة، لكنها اكتشفت أنها مقدمة على دور جديد، لم تكن متأكدة إن كانت ستنجح فيه أم لا، لكنها كانت مغرمة بالفكرة.
لم تكمل مادلينا الدراسة، مثلها مثل كل فتاة أخرى، ذهبت للمدرسة وهي في الثامنة لأنها كانت مضطرة لانتظار أختها التي تصغرها بعامين، كانت فكرة الأم التي اعتقدت بشكل حاسم أن الفتيات يجب أن يكن مع بعضهن، لذا وفي السنة الخامسة، كانت مادلينا تخطو في الصف مهتزة كي تلحظ الأثر على وجوه زميلاتها وزملائها وأساتذتها الذكور، في الصف السابع لم يكن من المعقول لمادلينا أن تظلّ في المدرسة، كثرت الأقاويل عنها، ثم كتب أحدهم اسمها على الصخرة السوداء تحت المدرسة بطبشور كان قد سرقه من الصف، وكانت تلك فضيحة بكل المقاييس.
قبل أن تنهي عامها السابع وقبل موسم الزراعة، قررت أمها أنها لن تذهب إلى المدرسة، توقفت مادلينا عن الذهاب لكنها استمرت في كتابة الرسائل بالأخطاء الإملائية لزميلاتها في الصف، وتلقي الردود منهن مع رسائل محشورة من شاب كان يسبقها بصفين، ولم تجب أبداً على رسائله المحمومة برسائل مكتوبة له شخصياً بل كانت تضمّن رسائل الصديقات المشتركات جملتين أو ثلاثة له، لأنها كانت تعتقد أن هذه الطريقة ستبقيه في مدارها لكن من دون وعود ولا إثباتات، لم تكن مادلينا تحبه، لكنها تحب أنه يحبها، وكانت بالطبع تعرف أنها لن تنتظره وستتزوج قبل أن تبلغ السابعة عشرة، ولم تحزن قط على تركها المدرسة، بل اعتقدت دوماً أنه كان التوقيت المناسب، للتوقف عن المشي ثلاث كيلو مترات صعوداً ونزولاً حاملة دزينة الكتب عديمة الفائدة، أرادت أن تعرف القراءة وأن تتزوج.
في التاسعة عشرة، اعتقدت مادلينا أنها اكتملت كامرأة، سمعت هذا في الإذاعة، بأن نمو الجسد يتوقف عند التاسعة عشرة، كان تاريخ ميلادها مدوّناً على المصحف المركون في الكوة المظلمة منذ الأبد، عرفن بتواريخ ميلادهن حين كانت مادلينا في الرابعة عشرة، حيث اكتشفت بالصدفة المصحف وعليه التواريخ، كان الأب بعيداً ليخبرهن ولم يكن ليهتم، وكانت الأم قد توقفت عن الحساب منذ بلغت مادلينا الثامنة من عمرها، فقدت السيدة الأم خيط الزمن، واحتارت في أعمار الأولاد، ثم توقفت عن الاهتمام، كن شابات وهذا ما يهم، وكانت تعطيهن عمراً تقريبياً، لكن بعد اكتشاف مادلينا، عرف الجميع أعمارهم، لكنهم لم يعرفوا قط من الذي كتب التواريخ على المصحف، ولم تفكر فيه مادلينا، بقي شعور الاكتمال يرافقها طويلاً.
كانت تتبع التواريخ في دفاتر أخيها المدرسية، وبالتالي تعرف في أي الأعوام والأيام هي، وحين اكتشفت أنها في التاسعة، تبدل فجأة شيء في أعماقها، وأجبرت نفسها على ارتداء مسحة من النضوج والوقار، واختلفت طريقة تعاملها مع أخواتها كأنها أصبحت أم، وصرفت وقتاً أكبر في تفحص جسدها واكتشاف علامات توقف النمو، كان محيراً لكنه شهيا لأقصى حد، وبصبر مروع انتظرت تحديد موعد الزفاف، لأنها خشيت أن تكبر أكثر وألا تتزوج إلا بعد أن يكون نموها قد توقف تماماً واختفت منها النضارة.
بعد عيد رمضان وصلت الأخت الكبرى للعريس ورمت الموعد المحدد كما يرمى حجر نرد: "بعد العيد الكبير"، اتسعت هوة في بطن مادلينا، ولم تتصنع الأم الدموع التي ذرفتها، وعلى قدر السعادة، كان الخوف، لم تكن مادلينا قد تحدثت إلى عريسها ولا لمرة واحدة، لم تكن قد سمعت صوته أبداً، ولم تشاهد ابتسامته، كانت تستعد لأن تكون بلا أخطاء، لكنها تريد أن تعرف أي نوع هو كي تبدأ برمجة تصرفاتها على ذلك الأساس، حاولت بشتى الطرق أن تلتقي بفتيات من قريته التي وراء الجبل، لكنها فشلت، فلا شيء يجلب فتيات تلك القرية إلى قريتها ولا شيء يذهب بها، والفكرة الجسدية التي كانت في البداية مغرية بسهر ليال وليال، أصبحت كابوساً لا تعرف كيف تتعامل معه.
وخلال شهرين كاملين، صرفت مادلينا ليال طويلة وهي تغير في شخصياتها وشخصيات زوجها، لم تكن مادلينا تتوقع اللحظة التي رأته فيها للمرة الأولى، كان وجهها مخبئاً تحت الطرحة البيضاء التي أشترتها خصيصاً من البائع الذي يجوب القرى، رفعت ناظريها وشاهدت وجهه الناحل ووجنته التي ستنفجر بسبب القات.
كان مشغولاً عنها بشي ما، بالكثير من الضجيج، ضاعت قدما مادلينا بين كومة الأشياء والأقدام بينما تمسك بها أخته الكبرى من يدها لتقودها إليه، وانتبهت مادلينا أن ليس قدماها فقط من ضاعتا، اللهفة العنيفة، الخوف الذي حفر أحشائها منذ أسبوع كامل، الخلجَان المفاجئ لقلبها، وتصورات شخصياتها وردود أفعالها، وقفت هناك تنتظر أن يسوى مكان جلوسها، وثبتت ناظريها على الرجل الذي انتظرت كل تلك الشهور لتراه، كان حليقاً، نحيلاً، شعره خفيف ودهني أعلى جبهته، يرتدي قميصاً أبيض ومعوزاً أسود بخطوط بيضاء وذهبية، ولم تكن له نظرة ثابتة، وما كان في الصورة المخبأة لا يشبهه غير في أنفه المعوج قليلاً، أجبرت مادلينا بحركة مفاجئة على الجلوس وسبقها هو، حين جلست اشتمت رائحة عرقه وعطره الرخيص، مد رأسه وسألها بهمس وهو يرتعد:
- كيف حالك؟ وبتعب تثاءبت مادلينا وأراحت رأسها للوراء، وقرّرت أنها لن تجيبه ولن تتحدث طوال الليل.
* قاصة يمنية