يتفق كثيرٌ من المهتمّين بالترجمة مُزاوَلةً وتنظيراً وحتى استهلاكاً، في بعض الأحيان، على أنَّ الترجمة الأدبية ممارسةٌ إبداعيةٌ لا تَقلّ شأناً عن الخلق والإبداع الأدبيَّين. لذلك نجد منهم من يذهب إلى استحالة تدريسها، بِحُكم ارتكازها على الموهبة من جهة، وعلى إلهامٍ يُماثل نظيره عند مبدع النص الأصل من جهة أخرى.
وتعزيزاً لموقفهم هذا، يضرب هؤلاء أمثلةً بأسماء شهيرة: سامي الدروبي، وأحمد حسن الزيات، وإبراهيم الخطيب، وغيرهم مِمّن برزوا في ترجمة أعمال كتّاب كبار، دون أن يكونوا قد تلقّوا تكويناً أكاديمياً في الترجمة، أو دروساً فيها من أيّ نوع.
وحريٌّ التنبيه إلى أن النقاش في هذا الصدد يعني الترجمةَ الأدبية تحديداً، لكونها هي المطبوعة باللمحة الإبداعية، التي قال عنها أُرْتيغا إِغاسِيتْ: "إنها جنس أدبي على حدة". ونظراً لصدور الترجمة الأدبية هنا عن آثار أدبية مرموقة هي أصلُها، فإن ترجمةَ تلك الآثار تكون إعادةَ كتابة، تفتح أمامها أراضيَ ثقافية جديدة في لغة غريبة تستضيفُها.
وبقدر ما يتصل الأصلُ بذاتية مُبدِعه، ترتبط الترجمات بذاتية مترجميها، وبما يعتمل في تلك الذات من تنشئة وتكوين نفسي وتربوي وأكاديمي وظروف معيشية، ويُتبيَّنُ ذلك في الاختلاف الذي يُلمس بين ترجمات النصّ الواحد إلى لغة بعينها، وما يُعايَن فيها من تفاوت بين مُترجِميه على مستوى اللغة، والأسلوب تدجيناً أو تغريباً، والتصوير، والتأويل إلخ، وهي أمور تعود إلى الحساسية الفنية لكل مترجم، والتي يتعذَّرُ تفاديها مهما اجتُهِد أثناءَ التكوين الأكاديمي في تلطيفها أو السيطرة عليها، لذلك ذهب بعضُهم إلى أنّ الكاتب يرسم صورةً عن ذاته في عمله في لغته، أما عند ترجمته فإنّ صورته يُضاف إليها صوْغُ المترجِم بالضرورة، لأن الأخير يترك أثرَه الخاصَّ في العمل المترجَم، لا محالة.
وعلى عكس الترجمة الأدبية، تزدهر الترجماتُ الأخرى بأنواعها المختلفة من قانونية وصحافية وسياسية وصحية واقتصادية ورياضية وغيرها، تلك التي تُصنَّف ضمن الترجمة المتخصّصة والعامة، لتَميُّز ممارستِها باليُسر النسبي، لذلك عرفتْ في زمن قصير إقبالاً كبيراً عليها، وتطوُّراً ملموساً في أساليب تلقينها؛ بعدما كَثُر الطلبُ عليها في سوق الشغل، وبعد أن راكمتْ تجاربَ مُفيدة للغاية، وغدتْ تتوافر على ديداكتيك خاص بها وفعَّال أيضاً في أساليب تدريسها، وتتأطَّر بعمليات تعليمية تَعلُّمية، وتنخرط ضمن سيروراتها.
ولأنَّ الكتابة الأدبية خلق وإبداع، فإنّ ما يجوز في حقّها يُفتَرَض أنْ يصدق على الترجمة الأدبية أيضاً؛ طالما أنّ مجال الإبداع عرف في العقود الثلاثة الأخيرة انتشاراً لافتاً لِمَا غدا يُعرَف - في حقل التكوين الإبداعي وتصميم المشاريع الأدبية - بورشات ومُحتَرَفات كتابة الشعر والقصة والرواية والتأليف المسرحي، وما يُوسَم بالإقامات الأدبية للروائيين وغيرها، التي يُرام منها التَّحوُّل إلى مشاتل تحتكّ فيها تجارب، وتتفاعل أذواق، وتتبلور رؤىً، وغالباً ما يُؤطِّرُها كُتّاب وشعراء ومسرحيون بارزون، يعملون جاهدين بصفتهم دليلاً يُمهّدُ الصّعابَ أمام الراغبين في اجتراح التجربة الفنية في الجنس الأدبي الذي يختاره الراغب فيه سعْياً منه إلى تطوير قدراته وتلقيحه بغيره.
ولقد عثرت الترجمة الأدبية في أصلها هذا، أي الكتابة الأدبية، على ما يُبرِّر طموحَها لكي تكون شبيهةً بحال الكتابة الإبداعية، على الأقل، فابتكرتْ لها داخل كليات الترجمة ومدارسها حديثة العهد بالظهور، ديداكتيكاً ينهض على كفاياتٍ مُحدَّدة، تأتي الكفايَتان الترجمية والتواصليَّة على رأسِها، مع ما تتضمّنانه من كفاياتٍ صغرى، إضافة إلى الكفاية الثقافية، لتتحوّل حلقات درس الترجمة الأدبية إلى ورشات يطبعُها التفاوض، ولا تخلو من إبداع متفاوت القيمة، وبذلك غدتْ معاهد الترجمة ومدارسُها تُكوِّن في الترجمة الأدبية في العالَم أجمع، وتُسجَّل فيها رسائل جامعية، وموضوع مؤتمرات وندوات ونقاش أكاديمي رفيع.
وعلى الرغم من عدم اكتراث الدول العربية بالترجمة وقلّة المؤسّسات المستثمرة فيها، فإنّ من حسن حظّ القارئ العربي أنَّ مترجِمين ممتازين يزوِّدونه بترجمات راقية لأعمال رفيعة، دونَ أن يكونوا قد تخرَّجوا من معاهد الترجمة، وإنما تعلَّموها وخاضوا فيها بعصامية.