تختلف الموسيقى عن باقي الفنون بأنّها نشاطٌ مُبهم المنبع والغايات. إنها التجلّي الأعمق والأغنى للميتافيزيقا، وهذا على الأقل ما تشي به موسيقى الأهليل في إقليم ڨورارة في الجنوب الغربي من الجزائر.
ارتبط الأهليل أساساً بقبائل زناتة الأمازيغية التي سكنت هذا الإقليم. إنّه فن لا يقتصر على الموسيقى، بل هو عرض متكامل من الغناء والشعر، إضافة إلى كوريغرافيا رمزية تجسّدها حلقة دائرية متراصّة يتوسطها مغني "أبشينو"؛ أشبه بقائد لهذا الكورس الذي يردّد في العادة لازمة واحدة طوال العرض. المتأمل لبنية هذا الفن ومعانيه، سيكتشف تآلفاً بديعاً لثلاث ثقافات، أمازيغية، وعربية - إسلامية، وأفريقية.
كانت سنة 2005 حدثاً بارزاً في تاريخ الأهليل الحديث؛ إذ انتبهت اليونسكو إليه متأخّراً، فصنّفته كتراث إنساني، ما لفت إليه الأنظار وأخرجه من غياهب الإهمال والنسيان الرسمي والإعلامي.
لا تحتل الآلات الموسيقة (القليلة أصلاً) مكاناً مركزياً في الأهليل، أو "التقرابت"؛ أي الشكل المُصغر له الذي تؤديه عادة النساء في المنازل. وينحصر دور الآلة الموسيقية في التقديم بعزف منفرد أو كونشرتو يحدّد الإيقاع ونمط الأغنية. وما إن يدخل الأبشينو بصوته، حتى تتراجع الآلة إلى الهامش في إيقاع رتيب كخلفية لصالح الحوار الموسيقي بين الدائرة ومركزها.
وقد ألمح عدد من الباحثين إلى تناظر محتمل بين الأهليل والبلوز من حيث النشأة والوظيفة، كون البلوز تبلور في حقول القطن في الجنوب الأميركي، مقابل جنان النخيل بالنسبة للأهليل. ولعلّنا نجد مبرراً لهذه المقاربة؛ لأن كليهما استئناس بروح الموسيقى بوصفها، في ذلك السياق، فعلاً مضادّاً للعبودية، واستجارة طقسية من فلاحة الأرض بوصفها تدخّلاً سافراً في مزاج الطبيعة.
شغلت نسبة الأهليل إلى السماء أو الأرض أذهان الكثيرين، فهل هو احتفال ديني صرف، أم تعبير دنيوي مثقل بالشرط الإنساني؟ وتبدو ثنائيّة مثل هذه ابتعاداً عن روح الأهليل والموسيقى عموماً. والواقع أنه سِجلٌّ تاريخي لأهل المنطقة، يروي سير الأقدمين، أفراحهم وانكساراتهم، عشقهم وجنونهم، غير أنه في الوقت نفسه، طقس مزدحم بالمقدّس والمتعالي، واستعانة دائمة بروح الـ"ميثوس" التي تتجلّى في تقديس أشعاره للأولياء والمرابطين؛ السمة الأبرز في الصحراء الكبرى.
التحام الأُخرَويّ/الدنيويّ في اللحظة ذاتها هو سمة الصحراء، منبت الروح وفردوس الوجود. لذا، ظل الأهليل وفياً لهذا اللقاء الذي ضمن له في السابق تجدّده وديمومته.
يُؤدّى الأهليل عادة في الليل، لدى رجوع الرجال من الواحات، يحذوهم توق إلى وضع أوزار يوم عصيب.
فطبيعة العمل الزراعي في "قورارة" تتميز بقسوتها، إذ تجمع بين الحر الشديد، وندرة الماء، ونهار لا يني عن التمدّد مثل بحر الرمل المجاور.
يبدو الأهليل تكفيراً عن خطيئة الاستقرار في الصحراء، وبلسماً يداوي جراح الأيام المضنية. وهنا يمكن تلمّس روح احتفال تسعى إلى تخطي هذا الشقاء الأبدي. ولمّا كانت الوسيلة هي الموسيقى بوصفها رَحِماً للتراجيديا، فإن الأهليل يشي بقرابة خفية مع احتفالات الـ"ديثرامب" في اليونان القديم، الساعية إلى استحضار روح ديونيزوس التي تمثل نشوة تحتج على رتابة الحياة اليومية ساعية إلى التطهر Catharsis، لا بالمعنى الأرسطي المدرسي، بل من حيث هو لقاء بالذات وتحقيق لها.
حاول الكثير من الفرق والمغنّين تبنّي هذا اللون الغنائي؛ خصوصاً بعد الاعتراف العالمي به، نظير ما حصل مثلاً مع فن الكناوة الذي استُهلك كثيراً وصار موضة غنائية أكثر منه تجديداً موسيقياً رصيناً. إلا أن التعقيد الذي يتميز به الأهليل، زاد من عزلته الفنية، رغم تخصيص الدولة لمهرجان سنوي يقام على شرفه في مدينة تيميمون.
أولى بوادر التجديد الحقيقي بدأت عند ظهور فرقة تدعى "ديوان القعدة" من مدينة بشار. أبانت هذه الفرقة عن اطّلاع وتمثّل كبيرين لهذا التراث، متجنبةً السقوط في التقليد الحرفي والمحاكاة الفلكولورية. ويتجلّى ذلك مثلاً في حفاظهم على البُعد الأفريقي وإثرائه من خلال استخدامهم لآلات عصرية، وإعادة صياغة لبعض الأشعار كي تغدو أكثر وضوحاً؛ وكانت استعانتهم بالمغنية عيشة لبقع في أغانٍ مختارة بعناية مثل أغنية "تقرابت" خياراً موفقاً؛ إذ إنّ هذه المغنية الاستثنائية تضمن بصوتها الخاص استدراجاً مغرياً لروح الأهليل الخجولة.
يبقى التحدي الحقيقي هو ترسيخ تجديد هذا التراث الموسيقي الذي شكل عمقاً فنياً لعدة أنواع أخرى مثل "الراي"، والحذر من إعادة إنتاجه بشكل فولكلوري غرائبي. ويطرح التجديد نفسه كضرورة في عصر مضطرب ينذر بموت الموسيقى لصالح نوع من الإيقاع السهل الاستهلاكي.