في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت نزعة - في الدوائر المهتمة بالأدب - إلى وضع كل عناصر المادة الأدبية داخل مربّع التنظير، كما جرى ذلك مع الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية. إنها محطة جديدة تستأنف ما بدأه الشكلانيون الروس في بداية القرن، وقد وجد هذا الجهد في الساحة الثقافية الفرنسية إطاراً ملائماً للتمدّد والتبلور، وضمنه برز اسم جيرار جينيت (1930 - 2018) الذي رحل عن عالمنا يوم الجمعة الماضي، تاركاً خلفه مدوّنة ضخمة استوعبت ومَشهدت كل ما في الحياة الأدبية من إشكاليات، ويعسر أن نجد أمراً يتقاطع مع الأدب لم يكن موضوعاً لواحد من نصوصه، بما في ذلك أصغرها مثل إهداءات الكتّاب أو تلك المعلومات التي يضعها الناشر.
بعيداً عن مضامين أعماله، يمكن أن نقرأ في مسيرة جينيت انتقالاً - قد يبدو غريباً - من التحمّس للعمل الجماعي في بداية مسيرته إلى انكفاء إلى الجهد الفردي في نهاياتها؛ فقد بدأت حياته الثقافية، وهو طالب، بانتماءات متعددة لأكثر من تنظيم سياسي يساري وجماعة ثقافية.
بعد تخرّجه، بدأت مسيرة جديدة كأستاذ جامعي، وسرعان ما لمع اسمه ضمن موجة صعود "النقد الجديد" ونهاية زمن "البنيوية". في البداية، اعتُبر هذا البروز السريع نتيجة لانتماء جينيت إلى الدائرة المصغّرة من المتعاونين مع "نجم" الدراسات الأدبية آنذاك، رولان بارت، لكن سرعان ما أصبحت للمنظّر الأدبي الشاب دائرة مستقلة حيث أحاطت به مجموعة من الأسماء الشابة والطموحة، من بينهم طالب قادم من بلغاريا اسمه تزفيتان تودوروف (1939-2017)، وطالبة فرنسية عائدة من الجزائر تدعى هيلين سيكسو (1937)، ومع هذين سيؤسّس في 1970 مجلة "شعرية" التي أراد لها أن تكون شاشة تعكس كل ما يدور في عالم الدراسات الأدبية، وخصوصاً أن تدفع بالتنظير خطوات أخرى، ومن خلالها اجترح الثنائي جينيت-تودوروف مجالاً معرفياً جديداً: علم السرد، وأيضاً جرى تكريس مصطلح "الشعرية" بمعناه الحديث (تفاعل العناصر الداخلية المكوّنة للنص -أياً كان جنسه- لخلق جمالياته وقدرته التواصلية).
التقطت إحدى كبريات دور النشر، "سوي"، نجاح الدورية، فاقترحت تحويلها إلى سلسلة كتب بنفس الاسم بداية من 1972، وقد لعبت دوراً رائداً في مجال الدراسات الأدبية، مقدّمة على مدى عقود مفاهيم ومصطلحات أصبحت العملات الأكثر تداولاً في ثقافات عدة حتى وهي تتناول بالدرس أدبها المحلّي، ولم تكن الثقافة العربية بمنأى عن ذلك، وإن كان يجدر هنا أن نشير إلى مفارقة تخصّ جينيت والثقافة العربية تتمثل في قلة ترجمة كتبه مقابل حضوره القويّ في الدرس الجامعي وفي الإحالات إلى منجزه.
رغم أنه ظلّ يدير السلسلة إلى آخر سنواته، فإن جينيت انسحب بشكل كبير من الحياة الثقافية الفرنسية، مكتفياً بحضور "نخبوي" ولحظات مرور عابرة في الإعلام أو المحاضرات العامة حتى أن أعماله الأخيرة بدت وكأنها وُلدت في الظل رغم أنها تحمل توقيع اسم أساسي في مجال التنظير الأدبي.
وفي الحقيقة، فإن انسحاب جينيت إلى الظل لم يكن سوى أحد مظاهر انهيار شعبية التنظير الأدبي بشكل عام منذ ثمانينيات القرن الماضي مع همود الرغبة في التنظير وضيق الكتّاب والجمهور بها. حتى تودوروف، رفيق مشاريعه الكبرى، كان قد أغلق هذا القوس بنهاية السبعينيات متجهاً إلى مشاغل أخرى جدّدت شعبيّته وحضوره.
قد تكون المرحلة الوسطى في مسيرة جينيت، والتي تقابل ثمانينيات القرن الماضي، أكثر فترات حياته إبداعاً، فرغم أنه قد بدأ النظرُ إليه كناقد "عتيق" ومكرّس بسبب تحوّل إصداراته إلى "كتب مقدّسة" جديدة في النقد، بالخصوص ثلاثة كتب بنفس العنوان "أشكال 1" (1966) و"أشكال 2" (1969) و"أشكال 3" (1972)، أتبعها بعد فترة طويلة بعملين صدرا في 1999 و2002.
في هذه السنوات، وهو يتّجه إلى التقاعد (يمكن أن يُفهم بمعناه المهني كما الإبداعي)، قدّم جينيت أعمالاً أساسية مثل كتاب "بقايا آثار" (1982)، وبعد سنة "الخطاب الجديد للسرد". وفي 1987، نشر كتاب "عتبات"، وهي أعمال تثبت أن للتنظير أيضاً أدبُه، حيث قدّم جينيت دراسات حول الأدب ولكنها كُتبت بأسلوب لا يقلّ ابتكاراً عن الأدب، ويمكن الإشارة بالخصوص إلى قدرته الفريدة على توليد المصطلحات.
يذكر في هذا السياق أنه اشتغل على استعادة مفهوم "التناص" intertextualité في محاولة لإخضاعه للانضباط التنظيري، فقد اعتبر أن المعنى الذي أطلقته جوليا كريستيفا ليس سوى إمكانية من بين خمسة يعرضها في كتاب "بقايا آثار". ورغم جديّة الجهد التنظيري، إلا أن المصطلح ظلّ يستعمل في الغالب على طريقة كريستيفا، ويُذكر أنها هي الأخرى قد انقطعت عن النظرية الأدبية في لحظة من مسيرتها في اتجاهات التحليل النفسي والدراسات النسوية.
عموماً، كان جينيت -على عكس أسماء كثيرة- يُنسى في الوقت الذي يُذكر فيه جهازُه المفاهيمي، فقد جرى تلقّف تصوّرات كثيرة من أعماله ثم جرت بلورتها بعيداً عنه. أوجدت هذه الوضعية أيضاً أسباب من داخل منجزه، منها تشتت مفاهيمه في مؤلفات متعددة ومعظم هذه الأعمال لا تدرُس مسألة محدّدة بل كان جينيت يجمع فيها مقالات ودراسات متعددة حول قضايا مختلفة، كما كان يثقل نصه بالابتكارات اللغوية؛ ما صنع سداً بينه وبين القارئ غير المتخصّص. ومن موقع ثقافات أخرى، يمكن أن يتحسّس القارئ التصاقه بالأدب الفرنسي.
ما كان يحصل في كثير من الأحيان هو أن يقوم منظرون آخرون بإعادة صياغة أفكار جينيت فتبدو في هيأتها الجديدة أكثر فاعلية وإشعاعاً حتى أن التسميات الجديدة لمقترحاته النظرية تصبح أكثر رواجاً من المصطلح الأصلي.
هناك حادثة ذات دلالة تعبّر عن جميع هذه المسائل في مسيرة جيرار جينيت؛ كان الإعلامي والكاتب الفرنسي جاك دريون يعدّ في 2014 ملفاً بعنوان طريف: "من لا يزال يتكلم اللغة الجينيتية؟" (في إشارة ساخرة إلى أن عدد المفردات التي ابتكرها جينيت يمكن أن تمثّل لغة مستقلة)، ضمن هذا الملف دعا دريون صاحب "عتبات" أن يُبدي رأيه في صفحة الويكيبيديا المخصّصة له، بعد تفحّصها يردّ جينيت قائلاً: "المادة المكتوبة عني تبدو خفيفة، وفيها عدد من الأخطاء، ولكن ليس لدي أية نوايا في إصلاحها".