لا تقاس الفرادة، في كتابات الناقد حسين الواد (1948-2018)، الراحل يوم السبت الماضي، بالوفرة وإنما بجودة التأصيل. فقد تمثَّل جوهر إسهامه في الارتقاء بالدرس الأدبي إلى مصاف "العلميّة"، بعد أن ظل لقُرون رهين الانطباعية والمعيارية، وفي أحسن أحواله أمشاجًا من تحليل الإعراب وصور البيان البلاغية.
وفي سبيل هذا الارتقاء، تصدى إلى أكثر نصوص الأدب العربي اشتهارًا بين الناس، وأوسعها عندهم تأليفًا، مثل أشعار المتنبي والمعري وبشّار، فأخضع مبانيها إلى صرامة النهج العلمي، وفي معانيها دقق النظر على ضوء أحدث المفاهيم الأسلوبية ومفاتيح التلقّي والتأويل، ولسان حاله يقول: جلُّ ما أنجزه الدرس الأدبي إلى يومنا لا يستحق أن يُنسب إلى دائرة النظر العلمي.
كان ابتداء مسيرته بمعالجة مناهج تأريخ الأدب، كما صاغها القدماء من علمائنا مثل ابن سلام في "طبقاته"، والأصبهاني في "أغانيه"، وياقوت في "معجمه". وكما حرَّرَها المستشرقون الذين رصدوا تطوّرات الأدب واللغة العربية وعلى رأسهم ريجيس بلاشير وشارل بِلا. فبرهن الواد أنَّ التأريخ للظاهرة الفنية - والأدب تجليها الأصفى - لا يمكن أن يكون مجرّد تجميع لسير الشعراء، وذكر لطُرف من آثارهم، فهذا أشبه بعمل الإخباريين والقصاصين. كما انتقد تحقيب فتراته بحسب استيلاء الأسر المالكة على الحكم، وانتقال دولها من طور إلى طور، داعيًا إلى كسر العلاقة الانعكاسية بين متغيرات السياسة وخفقات الأدب.
ولعل أهم سؤال شغله، طيلة عقود أربعة أمضاها بحثًا وتدريسًا، هي استكشاف مجاهيل التجربة الجمالية عند العرب، عبر إشرافٍ معرفي شامل، أطل من خلاله على سائر ما أنتجته الألسن والأقلام على دروب الإبداع في تيه الجمال. فركز جهوده على تفكيك العلاقات المنعقدة بين مبدعيها ومتلقييها، شارحًا ما بينهما من التفاعل، مستضيئًا في ذلك بنظرية الناقد الألماني هانس روبرت ياوس (1921-1997)، وقد كان من خُلصائه.
وزبدة القول لديه ألا يكرر النقد إلى ما لا نهاية: "فلان ملأ الدنيا وشغل الناس"، وإن كانت صيغة ابن رشيق في ذاتها مستملحة، وإنما أن يضع اليد على موطن الإبداع الذي افتَتَن به الناس وملأ دنياهم.
وبرصانة العالِم، طوّع صاحب "البنية القصصية في رسالة الغفران" المناهج الأوروبية وأنزلها من علياء التنظير إلى محك التجريب. وبحكمة الخبير، أبان عن حدودها، بل وعن عجزها حين تواجه خصوصيات النصوص العربية، لا سيما الكلاسيكية. ولم يستسلم لسلطة التراث النقدي، الذي أرساه السلف من نَقَدة الكلام، كابن جني والجرجاني والقرطاجني وابن رشيق، بل استدعى نصوصهم - وبعضها من دقيق العلم- لتكشف له ما كانت تصبو إليه العرب في تفاعلها مع مظاهر الجمال وآثاره.
هذا واتسم أسلوب الكتابة لديه برشاقة العبارة وطلاوة التركيب، بما له من اقتدار على التصرف فيه، تقديمًا وتأخيرًا، إفصاحًا وطيًا، ويكفينا شاهدًا لذلك عنوان أحد كتبه: "تدور على غير أسمائها"، لنعلم أنه خرج من تحت يد صناعٍ، إذ كانت نصوصه القارئة تمتِع وتغني، قدر إمتاع النصوص المقروءة وغَنائها.
وأما الرجل فقد عرفته أستاذًا نبيلًا وشهدت دروسه محاضرًا بارعًا. كان حين يدخل مَدرج كلية الآداب ويعتلي منبرَه، يُجلل المكانَ صمتٌ شبه ديني، وحينها يأخذ في إلقاء دُرره. نظراتٌ في الجموع وقّادةٌ وصوت يرسله فيهم واثقًا: "ليس الشعر الجاهلي مرآة تنعكس فيها صورة المجتمع، بل تخييل وإيهام، يطوي عبر إيقاع البحور وتعاودِ الاستعارات شاسعَ المسافات، فتسير به الركبان..."، وكنا، معشر الطلبة، نصغي فنكتب كل حرفٍ، بانبهار العاشقين.
أستاذي، لن أرثيكَ. فأنت من الرثاء أكبر. ولكن أحيّيك بلسان جيل كاملٍ علمته الأدبَ ما لذته، ووهبته حسّ الجمال، حتى غدوت جزءً من المعنى لديه، وأترحم على روحك، وقد سارت إلى حيث الجمال المطلق الذي لا تحده نصوص أدب ولا يطاوله الكونُ والفساد.