في ما عدا تلك المقولة العامة بأنها تمثّل أقدم نظام كتابة عرفته البشرية، ما الذي نعرفه حول الكتابة المسمارية؟ سؤال ينطلق منه المعرض الذي يستمر حتى 24 من الشهر المقبل في جامعة لورين في مدينة نانسي (شمال شرق فرنسا) في سنة تصادف الذكرى الـ 160 لحلّ شيفرة المسمارية. معرض يقدّم مشهد الأمم التي اعتمدت هذه الكتابة، وبموازاتها قصص فكّ رموزها واسترجاع القدرة على قراءتها في العصور الحديثة.
على هامش المعرض، نُظّمت محاضرة بعنوان "الكتابات المسمارية: حلّ شيفرتها واستعمالاتها" ألقتها كلّ من الباحثتين الفرنسيتين بريجيت ليون وسيسيل ميشال، سبقتها جولة قادتها أستاذة التاريخ في "جامعة لورين" ليتيسيا غرالين وورشة في تعليم طريقة الكتابة المسمارية.
تحدّثت غرالين عن أقدم الوثائق التاريخية التي تحتوي على كتابات مسمارية وتعود إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد، وكيف أن هذا الشكل الكتابي تلامس مع أكثر من لغة ليمسح استعمالها كامل منطقة "الشرق الأدنى" بسبب مرونتها وقدراتها فجرى اعتمادها في التجارة والتشريع والعلاقات الدبلوماسية.
يصل تأثير الكتابة المسمارية، وفق غرالين، إلى لغات معروفة مثل الأوغاريتية التي أنتجت أقدم أبجدية معروفة، وقد وصل استعمالها إلى مشارف ظهور المسيحية، ليُنسى ذكرها إلى حدود القرن التاسع عشر حين نفضت الغبار حولها موجات الرحّالة والمستكشفين الأوروبيين. تقدّم غرالين هنا جدولاً تضمّن مجموع هذه اللغات التي تقاطعت مع المسمارية وأزمنة استعمالاتها، وقابلت ذلك بزمن حلّ شيفرتها.
من نفس النقطة، انطلقت محاضرة بريجيت ليون وسيسيل ميشال حيث عرضتا خريطةً تبرز أماكن ظهور اللوحات الطينية التي نجد فيها الكتابات المسمارية، مركّزتين على تجاوزها منطقة الرافدين إلى مصر غرباً وإيران شرقاً والأناضول شمالاً، بفضل الدبلوماسية والتجارة. كما جرت الإشارة إلى ضرورة الانتباه إلى أن جميع الخرائط المعتمدة اليوم ينبغي تحيينها بسبب ما يحدث في المنطقة، خصوصاً عمليات التفجير في المناطق الأثرية، أو الحفر العشوائي، التي قد غيّرت الكثير من المعالم.
يظلّ أبرز ما حملته المحاضرة هو قصص فكّ شيفرات اللغات التي اعتمدت الكتابة المسمارية، ضمن سياق عام سمّته المحاضرتان بـ"مرحلة إعادة اكتشاف الشرق الأدنى" حيث بيّنتا صعوبات أن يكون هذا الاكتشاف موضوعياً مع هيمنة البعد التخييلي المتأتي من تفسيرات جاهزة للنصوص الأسطورية أو الدينية، إضافة إلى كون الغربيين بدأوا يتلقّون تاريخ المنطقة من خلال لوحات فنانين أو مسرحياتهم.
تقدّم المحاضرة هنا سرداً تاريخياً ينطلق من نصوص الرحّالة إلى المنطقة ووصفهم لآثارها وانطباعاتهم عن الكتابة المسمارية وكان أولهم الإيطالي بيترو دي لافالي، قبل أن تظهر البعثات العلمية في القرن التاسع عشر وهي فترة تميّزت كذلك بنقل المواد التاريخية من أجل دراستها، كون الأثريين وقتها كانوا يستعينون بخبراء اللغات الشرقية القديمة في باريس ولندن.
نهاية القرن الثامن عشر، وخصوصاً في القرن التالي، حدثت دفعة قوية لدراسات الكتابات المسمارية، وهو ما تسمّيه المحاضرتان بـ"مرحلة السفراء"، فقد وظّف هؤلاء السلطات الموسّعة التي لديهم ليضعوا أيديهم على مناطق الآثار في العراق وسورية. تميّزت "مرحلة السفراء" بتسابق فرنسي بريطاني على الحفر، وهي المرحلة التي وصل فيها البحث إلى مستوى الكشف عن المدن الأساسية لحضارات بلاد الرافدين.
تشير ليون هنا إلى هذه الحفريات لا يمكن اعتبارها علمية، وبالتالي فقط تسبّبت في خسارة الكثير من الآثار، حيث أن الوصول إلى بعض اللوحات الطينية وغيرها من الوثائق اقتضى هدم جدران لم يكن الباحثون وقتها يعلمون بأنهم يدمّرون معمار مدينة، وهنا أشارت ليون بشيء من المزاح بأن طرق الهدم لا تختلف كثيراً مع ما يحدث اليوم من تهديم للمعمار من قبل المتطرّفين.
من جهتها، تلفت ميشال إلى أن وصول الباحثين الألمان إلى العراق مثّل نقطة بداية البحث الأركيولوجي الحقيقي حول حضارات الرافدين، مرجعة ذلك إلى أن المؤرّخين الألمان كانوا يتلقّون تكويناً معمارياً على عكس الأثريين الفرنسيين والإنكليز.
لم تقدّم المرحلة الاستعمارية دَفعات لافتة في دراسة الحضارات الرافدية - على عكس المتوقّع - فالحفريات بقيت بنفس النسق. تنتقل هنا الباحثتان إلى زاوية نظر أخرى حيث ترصدان صورة الأبحاث الأثرية في الأدب، معتبرتين أن النموذج الأبرز هو أعمال الكاتبة الإنكليزية أغاثا كريستي التي كانت زوجة أركيولوجي، ومن أبرز ما تضيئه هو كيفية تقسيم مناطق التنقيب ثم كيفية توزيع "غنائم" المكتشفات.
حلّ شيفرة اللغات المكتوبة بالمسمارية كان الجزء الذي أخذ أكبر حيّز من المحاضرة، حيث شرحت ليون مناهج ذلك مثل المقارنة مع لغة معروفة، كما حصل مع حجر رشيد حين استعان جان فرانسوا شامبوليون بوجود نص باللغة اليونانية القديمة (المعروفة) يقابل النص الهيروغليفي. ما يوازي حجر رشيد للهيروغليفية هو حجر ميشو بالنسبة للكتابة المسمارية، غير أن المعضلة التي واجهت الباحثين وقتها – كما تقول ميشال - هي أن حجر ميشو كان مكتوباً بثلاث لغات جميعها غير معروفة.
تكشف الباحثة الفرنسية بأن الترجمة الأولى للحجر التي وضعها مكتشفها الفرنسي أندريه ميشو كانت مجانبة للصواب تماماً، فقد حاول بطريقة تقريبية أن يفهم المعنى، قبل أن يبدأ المتخصّصون في اللغات الشرقية في اعتماد الطريقة الإحصائية، وهي محاولات وإن بقيت بعيدة عن حلّ رموز المسمارية فقد أوصلت الباحثين إلى معرفة أنهم حيال نظام كتابة يتضمّن ثلاث إمكانيات لكلّ رمز؛ إذ يمكن أن يحيل نفس الرمز إلى حرف أو مقطع صوتي أو كلمة وهو اشتغال سيتقدّم فيه عالم اللغات الألماني جورج غورتفيلد.
غير أن الخطوة الكبرى، ستكون بفضل البريطاني هنري راولنسون الذي وصل إلى نقش بهستون (1835) الذي يتضمّن خطاباً من الملك داريوش الأول إلى رعاياه بثلاث لغات هي العيلامية والبابلية والفارسية القديمة، وهذه الأخيرة كانت لغة معروفة لامتدادها في الفارسية الحديثة عكس اللغات الأخرى، ما وضع الأبحاث في نفس وضعية حجر رشيد. لكن لم يجر الاعتراف بعلمية حل شيفرة اللغات المكتوبة بالمسمارية إلا في 1857 حين جرى إرسال نفس النص إلى أربعة علماء لغات شرقية مختلفين وقدّموا ترجمات متقاربة.
آخر ما جرت الإشارة إليه في المحاضرة، هو أنه وبفضل كونها كانت تُحفر على محامل طينية سلمِت الكتابات المسمارية من عمليات التخريب (خصوصاً بالإحراق) التي كانت تتعرّض لها المدن الرافدية مع كلّ غزو، لتجد من يقرؤها من جديد في العصور الحديثة. المفارقة أن العصور الحديثة كانت لها أيضاً أشكال تخريبها.
رحلة الأبجديات
تحثت الباحثة ليتيسيا غرالين عن تاريخ الحروف حيث اعتبرت أن ثمة مساراً من التفاعلات بين اللغات أوصلنا إلى الأبجديات المعروفة اليوم.
ترى غرالين أن اعتبار الفينيقيين أصحاب أول أبجدية اعتقاد مرتبط بمركزية اللاتينية في العصور الحديثة والتي اقتبست رسم حروفها من الأبجدية الفينيقية.
بالنسبة إلى البحوث العلمية، فإن الأوغاريتية لا تزال تمثّل أقدم أبجدية معروفة وإن رجّح الباحثون أنه سيجري اكتشاف أبجديات أقدم.