تظهر هذه الصورة، كفعلٍ جوهري، في المبنى الدرامي للفيلم الروائي القصير "Nocturne in balck" للّبناني جيمي كيروز، الذي أنتج هذا العام. لكنها لن تبلغ ذروة السرد إلاّ في اللحظات الأخيرة، بعد مسار تصاعديّ لصراعات، خفية وعلنية، تقع أمام كاميرا، تتوغّل في ثنايا الوجع الفردي ـ الجماعي، والألم الذي يمزِّق أحلاماً وطموحات، والأمل في تجاوز المفروض غصباً، بقوّة الإيمان بأولوية الحياة. والفيلم، إذْ ينشغل بالصراعات تلك، يقول إن للحياة أهمية أقوى من أن يغلبها موت وجهل وتعتيم واستباحة وقتل.
يُمكن مشاهدة الفيلم من دون إسقاطات فكرية وإنسانية كبيرة، وبعيداً عن كل خطابية تحليلية، قد تغيِّب، ولو قليلاً، جانبه السينمائيّ. فهو منشغل ببناء مبسّط يحتمل عمقاً في مقاربة الحكاية، وبسياقٍ يبدو لوهلة أنه عادي، قبل أن يكشف سلاسةً واضحة في مقاربة الحكاية، بمحافظته على تقسيم سردي متكامل، وعلى توليف غير مدّعٍ. وهذا كلّه يهدف إلى تقديم الحبكة على الشكل، من دون تراخٍ في بناء شكلٍ يليق بنص سينمائي إنساني كهذا.
يتغاضى جيمي كيروز عن تحديد مكان أحداث فيلمه القصير وزمنها، لأن المضمون أهمّ، ولأن التشابه بينها وبين قصص أخرى فاعلٌ بقوّة في المشهد الدولي. لكنه يُحدِّد، في المقابل، المشهد العام: سطوة تنظيمات جهادية أصولية ("داعش" مثلاً)، تكشف مكان الحدث، خصوصاً أنه، في ختام الفيلم، يذكر أن القصّة حقيقية، وأن بطلها لاجئ فلسطيني في سورية، وأنه قدّم عرضاً بعنوان "رجل البيانو" في ميونخ، عشرات المرات، بعد نجاحه في الهرب إلى ألمانيا، وأنه لا يزال يبحث عن طريقة لإنقاذ زوجته وأولاده مما يعانونه في البلد المخرَّب.
للمخرج موقفٌ واضح، يبعثه كرسالة مغلّفة بشكل سينمائي، متجانس ومتماسك إلى حدّ، تقول إن للإنسان حقّاً في الحياة، مفاده أن يحياها.
المكان مدمَّر. الأمكنة، القادرة على استقبال الناس، قليلة وسط الحطام. كريم (طارق يعقوب) يفقد أهله في الحرب الدائرة في سورية. عشقه الموسيقى أداة أخيرة للعيش. البيانو خطرٌ على قاطني المبنى، والجماعات الأصولية تمنع كل ما له علاقة بالحياة. تحطيم البيانو لا ينفع، فزياد (كريم زين)، المراهق الفاقد، بدوره، والديه، يريد تعلّم الموسيقى، وكريم يريد تصليحه لبيعه، ومغادرة المكان.