في ألمانيا القرن الثامن عشر، جرى إحياء "فن التأويل" (الهرمينوطيقا) ووجد حوله - حين بُعث حياً من جديد - في القرن الموالي روافد كثيرة تغذّيه. كان هذا الإحياء في إطار الدفاع عن "الإنجيل" الذي جرى إصلاحه ضمن البروتستانتية، التي وُلدت هي الأخرى في ألمانيا.
سيتبلور هذا التوجّه حين تلقّفه الفلاسفة. كان أوّلهم فريدريش شلايرماخر (1768 - 1834) ثم تلاه فيلالم ديلتاي (1833 - 1911) الذي اعتبر أن الهرمينوطيقا لا تحقّق نفسها إلا حين تترك الرغبة في خدمة أية مهمة دوغمائية.
هذه الملاحظة ستؤدّي، لاحقاً، بالمؤوّلين إلى أن يدركوا بأن الفهم أصبح مشكلة فلسفية، خصوصاً وأن المؤسّس شلايرماخر دعا إلى "هرمينوطيقا كونية" تجعل من الفهم مستقلاً عن النص الذي يعالجه، فبهذه الرؤية وحدها تصبح الهرمينوطيقا قابلة للتطبيق أينما وُضعت.
مع تقلّبات القرن التاسع عشر، الفلسفية وغيرها، سيتوقّف النمو. لم يكن ذلك بسبب الفضاءات الفكرية الجديدة التي انفتحت مع "إنزال" ماركس الفلسفةَ إلى حلبة الصراعات الاجتماعية أو ضربات مطرقة نيتشه القاسية على رأس الحداثة الغربية، بل لأسباب متعلّقة بالرؤية التي وضعها شلايرماخر نفسه، وهذا ما سينتبه إليه مارتن هايدغر (1889 - 1976) وهو يستأنف قصّة الهرمنيوطيقا من جديد.
لقد رأى صاحب كتاب "مبدأ العلّة" أن تأويلية كونية تعني ترك الأهم يفلت من النصوص. يقترح هايدغر أن يجري استقبال النص في غربته الأولى، كما هو، وتركه كي يَظهر منه ما ليس مصاغاً.
في هذه المنطقة (ما ليس مصاغاً) يوجد ما يتخفّى دائماً ويوجد ما لا يظهر إلا تحت قناع. يرتسم للفيلسوف الألماني، في تأويليّته، بُعدان: المصاغ من النص وما هو غير مصاغ، والذي يعتبره الموضع الذي تُخزَّن فيه معظم إمكانيات المعنى. وهكذا، يفتح هايدغر مساحات لم يطأها العقل البشري من قبل.
بعد ذلك، سيربط هايدغر التأويلية بأبحاثه الأخرى، حين يعتبر في كتابه الأبرز "الكينونة والزمان" (1927) أن الأنطولوجيا (علم الوجود) والفينومينولوجيا (علم الظواهر) ينبغي أن تكون جذورهما ضاربة في ما يسمّيه "هرمينوطيقا الدزاين" (الدزاين: الوجود هنا/ الآن).
وبذلك، فهذه الهرمينوطيقا تتجاوز طموح المؤسّس الثاني، ديلتاي، الذي كان يريد أن تكون مهمّتها تأسيس العلوم الإنسانية، لتصبح طامحة إلى فك شيفرة فهم الوجود البشري بإطلاق. تصبح الفلسفة، بدءاً من هنا، عملية العبور إلى ما وراء طبقات من الفهم، إنها الجهد التأويلي الدائم لمظاهر هذا الوجود (التاريخ، الفن، الدين، العلم...).
من الصعب أن نلحق بقصّة الهرمينوطيقا بعد النقطة الهايديغارية، فلقد تشعبّت وتسارع نموّها وذهبت في كل اتجاه، فهي مع هانز جورج غادامير ستلاحق ما هو أبعد من النص، إذ ستطبّق مناهجها على فهم النص، أي أنها صارت فهماً للفهم.
وفي مغامرة تأويلية أخرى، جاء بول ريكور فجعل الهرمينوطيقا تهتمّ بما في الذاكرة (هي اجتماعية بالضرورة)، ومن ثم الخروج بها من النصوص إلى الحياة العامة. إنها تلاحق كل شيء في هذا العالم.