رغم التاريخ الذي تحتضنه حدائق "شارع أبو نواس" على ضفاف دجلة، إلا أن عقولاً حجرية أرادت تحطيم تمثال الشاعر الذي سُمّي الشارع باسمه، وحين علت أصوات مثقفين مندّدة بهذه النوايا، تراجع "أصحاب الفكرة" وشرعوا في البحث عن ضحية أخرى تُقدّم قرباناً على مذبح التوحّش البدائي الذي يضيق على الجمال كأنشوطة مستعارة من زمن محاكم التفتيش.
ومثل اجترار المجزرة، مجزرة تدمير النصب والتماثيل العراقية التي كانت ملح نهارات بغداد وقناديل ليلها الآمن، انتقل مِعْوَل الهدم من تمثال أبو جعفر المنصور الذي لم يشفع له أنه مؤسّس بغداد وبانيها، ليهوي مهشماً قاعدته الحجرية، إلى تمثال عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء العراقي الذي قيل بأنه مات منتحراً في عشرينيات القرن المنصرم وعشرات النصب والتماثيل الأخرى، ليتوقّف مؤقتاً عند "نصب الشهيد" الذي يتربّع على مساحة واسعة من رصافة بغداد.
تأتي ذريعة هدم "نصب الشهيد" مع الغليان العاطفي الذي صاحب مجزرة "سبايكر" التي راح ضحيتها 1700 شاباً قتلاً ونحراً وإغراقاً في مياه دجلة على يد تنظيم "داعش" في مدينة تكريت، والهدف المعلن: إقامة نصب ومقبرة على أنقاض "نصب الشهيد" الذي يعدّ من أبرز المعالم المعمارية في بغداد.
هذا النصب من تصميم المهندس المعماري العراقي سامان أسعد كمال، أما القبة فهي من تصميم الفنان التشكيلي العراقي إسماعيل فتاح الترك، وتكمن عبقرية هذا البناء في الخداع البصري الذي يحقّقه النصب المقام على أرض مفتوحة مترامية الأطراف، إذ يشاهد المارّ حول النصب أن شطري القبة الذيْن يرتفع كل منهما 40 متراً، والتي تبدو مغلقة عند بداية الشارع، يبدآن بالابتعاد أحدهما عن الآخر وكأن بوابة تنفتح أمامه تمهيداً لخروج العلم العراقي الذي يرتفع إلى الأعلى تجسيداً لارتقاء روح الشهيد إلى السماء. النصب مشيّد بأكمله وسط بحيرة صناعية واسعة.
خبر الهدم جاء على شكل كتاب رسمي، تناقلته وكالات الأنباء، يحمل موافقة مجلس الوزراء على مقترح مقدّم من قبل "المفوّضية العليا لحقوق الانسان" يقضي بـ"دفن رفاة شهداء مجزرة سبايكر، وإقامة متحف ونصب تذكاري لهم في "نصب الشهيد" تُعرض فيه كافة صورهم ومقتنياتهم".
أدّى تسريب الوثيقة إلى حراك في الوسط الثقافي يقف ضد الفكرة. الكاتب والسيناريست أحمد هاتف يقول "علينا أن ندرك أن كل دم عراقي هو محل تقديس. لا ألوان للدماء، لذا لا يمكن أن يحل شهداء سبايكر محل شهداء الماضي".
وأضاف هاتف في حديث لـ"العربي الجديد" أن "إزالة "نصب الشهيد" سيكون خطأ إنسانياً قبل أن يكون خطأ تاريخياً أو ثقافياً"، مُوضّحاً أن هذا الفعل "سيكون نوعاً من العنصرية، تصنّف الدم إلى أسود وأبيض، وإلى درجة أولى ودرجة ثانية".
وأكد هاتف "مجرّد التفكير بهذا الأمر سيكون كارثياً، فمن غير المعقول أن نقتل عملاً فنياً فقط لأنه انتمى إلى حقبة تاريخية ماضية".
لم تعلّق الحكومة العراقيّة رغم محاولات الصحافيين معرفة صحّة الوثيقة المسرّبة من عدمها، الأمر الذي يرجّح أن الحكومة عازمة بالفعل على إزالة النصب، وهو الأمر الذي لا يبدو غريباً.
عموماً، لا يبدو أن مناشدات الوسط الثقافي العراقي تجد آذاناً صاغية دائماً من قبل السلطة، فقد سبق للحكومة العراقية أن أعادت ترميم نصب "كهرمانة" عبر صبغها بمادة "الزفت"، فضلاً عن تآكل جداريات عديدة، منها لجواد سليم ومحمد غني حكمت، وهي معرّضة للزوال، إلا أن شيئاً لم يحصل لإنقاذها. فهل يسلم "نصب الشهيد" اليوم من المعاول التي تعبث بمدن العراق؟