ظهرت الساحة الثقافية في فلسطين هذا العام أكثر تفتّتاً وهشاشة إزاء المتغيّرات والأحداث. لكن التحدّيات الجديدة التي فرضتها أحداث كان أبرز أوصافها أنها مؤسفة، أثارت الكثير من الأسئلة حول قدرة جبهة الثقافة في فلسطين أو تطلّعها لإحداث تغيير ملموس، إذ إن المتوقع أصلاً في هزّات وأحداث وتحوّلات مثل هذه ألّا تكتفي الثقافة - كجبهة أولى أمامها - بمحاولة إدارتها وحسب، بل بإعادة إنتاجها كواحدة من ساحاتها، إلا أن ما حدث ومع انقضاء العام يحيلنا إلى أسئلة تعود معظمها إلى المستوجبات الأساسية الأولى للساحة بأشخاصها ومؤسساتها، في ظلّ استكانتها بل فشلها في التحديات التي واجهتها في مجمل نقاشات الثقافة.
لم يأتِ عام 2019 بما هو جديد على الصعيد الثقافي: ما زالت المؤسّسة الثقافية، في كلّ مستوياتها، تعيد إنتاج الخطاب ذاته والأدوات ذاتها، سواء على مستوى الشعارات المرفوعة أو على مستوى الأهداف، مع مسحة شكٍ خفيفة تجاه مفردة الأهداف، إذ تبدو الحالة برمتها رهينة الجهد الفردي الخالص، والارتجالات التي تعيد نفسها بنفسها، تنتج مرة ما تم استهلاكه أصلاً، أو ترتطم بالحائط مشكّلةً صدى سيء الصيت.
ولعلّ حادثة قسم المسرح والفنون الجميلة في "جامعة النجاح" في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، حين أمر رئيس قسم الفنون الجميلة بإيقاف عرض مسرحية "عشتار" من على المنصة، كانت الصدمة الأكبر بين جماهير المثقفين والمشتغلين بالفنون عامة، وغير المشتغلين بها على حد سواء، إذ أن المنصة التي كان حرياً بها حماية حق الذائقة الفنية بالتواجد، قبل التسلّل إلى حرية الرأي والتعبير التي أصبحت مطية شعارتية لا تضيف ولا تُنقص شيئاً، هي أول من أمسكت مايكروفون المنع تحت حجة قوانين الجامعة، التي تمنع ما وُصف بأنه خروج عن أعراف وقوانين الجامعة، وهي الأعراف والقوانين التي يبدو أن رئيس القسم إياه يجهلها، إلا أنّ متحدثاً باسم الجامعة خرج بعد أيام قليلة، نافياً أيّاً مما ذُكر في بيان الرفض المرتجل.
وفي سياق آخر، وللتدليل على حجم الضبابية الذي يكتنف الحالة الثقافية في فلسطين ما تلا وما سبق، وبينما انعقدت جلسات انتخاب الأمانة العامة الجديدة لـ"اتحاد الكتاب الفلسطينيين" في رام الله، التي تلت استقالة جماعية للاتحاد السابق "احتجاجاً على تعطيل الخيار الديمقراطي، والمماطلة، والتسويف في إجراء الانتخابات الخاصة بالاتحاد"، ظهرت مجموعة من الأصوات التي تتساءل حول حرمان كتّاب غزة من حقهم في الانتخاب والترشح في الانتخابات الجديدة التي عُقدت لاحقاً، في سابقة وصفها كتّابٌ بأنها محاولة لإقصاء جناح كامل من كتّاب الوطن، الأمر الذي أثار غضب واستهجان الكثيرين. لكن لم تتوقّف الأمور في الاتحاد عند هذه الحدود، إذ أن الزيارة التي قام بها وفد من الاتحاد إلى نظام الأسد في سورية ضمن احتفالية مرور خمسين عاماً على إنشاء "الاتحاد لعام للكتاب العرب" في سورية، دفع مثقّفين فلسطينيّين لإنشاء ما أُطلق عليه "جبهة الرفض الثقافي" في مواجهة ما وصفوه "العبث بالهيكليات واللوائح".
وجاء في مطلع بيانهم الأول: "تدين جبهة الرفض الثقافية الفلسطينية زيارة أمين عام اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين -غير المنتخب- ومن يرافقه من أعضاء الأمانة العامة ومناصري الاستبداد ومُتثاقفي السلطات الكريهة، لعاصمة الأمة السورية وبلاد الشام: دمشق، واجتماعهم برموز النظام السوري وأبواق القتل والتعالي على آلام وجراح الشعب السوري كلّهِ؛ بِمُعارضته ومُوالاته وجميع أطيافه في الداخل المذبوح والمنافي التغريبيّة على حد سواء".
وإذ تحيلنا تلك القضيتان، وهما الأبرز ضمن قضايا كثيرة، إلى تلك النقاشات التي تتأسّف على الحالة ولا تنهض بها، تشدها إلى أسفل لا إلى أعلى، تتقوقع وتنتكس ولا تنفض غبار التكدّس وتحيله إلى تجلّيات جديدة تحتاجها الساحة بالضرورة.
وإلى جانب ذلك كله، لا يبدو الحدث الثقافي، في إطاره الكلي، قادر حقاً على إدارة الدفة بما يكفل أن تحدث إزاحة ملحوظة إلى الأمام، أضف إلى ذلك تواصل المؤسّسة السياسية بتجاهل من الثقافية منها إعادة إنتاج دور "البوليس السري" في النشر والإنتاج المعرفي، دافعةً ظهرها إلى قوانين جديدة تغلّف القمع الفكري بالقانون والتشريع ضمن ما بات راسخاً في الوجدان بقانون الجرائم الإلكترونية.