بعد حقبة الانفجار الفنّي الكبير في عشرينيات القرن العشرين وتمازُج أشكال التعبير بتأثير كشوف اللاوعي لدى فرويد وعوالم العقل السرّي لدى غوستاف يونغ، ذاك العقل الليلي الشاسع والغامض والكوني المشتمل على الأحلام والجنون والظهورات؛ بعد هذا الانفجار الفنّي الكبير، اقتربت الكتابة الشعرية من الرسم، بل كاد الشعر ينفصل عن عالم الأدب لينتمي إلى عوالم التشكيل.
هكذا لا نكاد اليوم نعثر - في بلدٍ كفرنسا - على شاعر لا يمارس التشكيل بل أحياناً يختلط علينا الأمر؛ هل هو شاعر يمارس الرسم أم هو رسّام يعاني الكلمة؟
الشاعر الفرنسي جوستان ديلارو من هذه الأرومة الشعرية؛ فقصيدته تتّكئ على بلاغةِ ونحوِ العقل السرّي أكثر ممّا هو نحّات لغة. يمارس دولارو الرسم والشعر بنفس الروحية؛ شعره تلميحٌ وتقطيع وكولاج تعابير وكلشيهات، ولكنها مستلّة من سياقاتها... هنا بعض من فقراته الشعرية، من نصّه "الفخاخ" الصادر في 2016 مترجمةً إلى العربية؛ جملٌ وكلمات ومقاطع منفصلة، وعلى القارئ أن يعيد إبداعها.
وديلارو شاعر وفنان من الجيل الجديد في المشهد الأدبي الفرنسي، من مواليد عام 1987، طوّر عملاً شعرياً متعدّد الأشكال، يجمع بين الإبداع الكتابي والتشكيلي والصوتي. يعمل على حواف لا تفصل بين حقول التعبير المختلفة، فهو يرسم ويكتب ويمارس التصوير الفوتوغرافي ويحرّر؛ حيث أسس منصة PLI (شعريات الخلل أو الثغرات). أصدر ديلارو ستّة كتب، وأقام أكثر من عشرين معرضاً فنياً شخصياً.
(المترجم)
هكذا يحملون تاريخ البشرية الصامت. كلّ شيء تمّ محوه. الكتابة لن تكون أبداً خطّية. حواجز من الورق المقوّى. بيضاوي الشكل. السماء بيضاء صارت مشمّعاً. أعيد وضعه. ضوء الفندق ينير الشجرة الخضراء. استعدنا كل شيء من البداية. نحن نتقدّم رغماً عنّا.
■ ■ ■
لقد تغيّر الرأي. هو الإهليلج. اختفينا في الكراهية. وضَع الطردَ. غيّرنا رأينا. شباب مختنق. لقد تغيّرنا. الجملة طافحة هنا. طغى عليه. من الضروري لنا رسم وجوه زماننا. لا شيء متأكَّدٌ.
■ ■ ■
عتمة مضاءة، ثقيلٌ الهواء الرطب. صلب وثرثرة تجرجر. مع مرور الوقت تتحوّل الكلمات إلى علامات. نتذكّر المشاهد. وعلامات الشرائط السوداء. لوحة الشطرنج التي بخشب الجوز تستند إلى الحائط. نثار الكلام المتراقص.
■ ■ ■
نكتب باليد كما لو كنّا تنزيل كومة من الأوساخ للمرور أو للتنفّس. ظلال مفارَقةٍ تاريخية. أنا أمام هذه السلسلة من الخطوط الغامضة. في المركز. منبطحاً. استقال. نبدأ الكتابة في المنتصف. بين جدارين من أرض طينية وكيس من التراب والطين.
■ ■ ■
في ظلام هادئ وناءٍ. سنعود. كلّ جملةٍ ركام. نغوص. نسير جنباً إلى جنب في مشي ثنائي. لا بد لي من أن أستخرج نفسي من نفسي. أين حركة النوم البهلوانية. موقف بلا نقطة جاذبية، مطاردة من ليلٍ إلى ليل، مونولوغ الأرواح، الأوركسترا، رقصة حزينة. والمعادن مغطّاة بالطحلب.
■ ■ ■
أكون عادةً على قيد الحياة. وهذا يعني أني لم أعد أعرف. ومن ناحية الذاكرة، دفتر خاو تمّ محوُه. يجعلني أتعرّق. عيوني مغلقة وجسدي هو الكون. لأن أبدأ يجب أن أُغرق نفسي. استفزاز. صفحة مفقودة.
■ ■ ■
سنبدأ إذن مثل كل الناس لنبدأ هكذا. سنمضي. نبحث عن زماننا. سوف نفتقد. في أنقاض مقاطع النص. سنشرع بالاندفاع. نتخبّط في الداخل. قاعدةٌ. لم نحصل على شيء. نتقدّم الرأس في الأرض والذراع على جنب. إنه مغطّىً بالدهون.
■ ■ ■
حديد ذو ذبابة. سيكون التعقيب على حياتنا اليومية. هذه الإنسانية العابرة تواجه. تترك الثمرة تسقط من على كتفها. صورة البندقية صوت الرقبة المكسورة في الفيديو. أنا هنا.
■ ■ ■
حالة لا تطاق علينا فكّ رموزها. هي تنحلّ تماماً. الصورة. تصير دعابة. كلُّ نموّ ناقصٌ. أدخل كلمة المرور. إنها بعض المنحنيات الدقيقة التي تنضمّ لبعضها. الآن. من الممكن أن يكون الفيلم الذي لا يبدأ أبداً.
■ ■ ■
انخفاض. سوف نصبح مثل أي شخص آخر. رمز. سنبدأ بالظهور. يرتدي جلداً على عظام وظل بشري. إنها متوتّرة. ثم سيتم إعادة بنائها. من التاريخ الغائب للإنسانية المنحنية. مؤخّر العنق. السرد غير مكتمل.
■ ■ ■
الظلال التي رسمَتها الإضاءة الاصطناعية في الجزء الخلفي من القاعة. قاعة سينما فارغة في قارب سكران. من زماننا. أو تكمل. لقد دخلت اللوحة الزيتية ثم خرجت مرة أخرى. الأدب التجزيئي. يتبع. يجلب لنفسه. وثائق.
■ ■ ■
أن تبدأ بالغرق. تعيد الشيء أو تصلحه. فوق الطاولة. القفز فوق النقاط. عارضة بلورية. الانهيار. لا تنبس بكلمة. فوق نصف ارتفاع نصف منزل مبني إلى النصف قبل نصف قرن، يواصل خرابه على نفس الوتيرة. شتم الأساسات.
■ ■ ■
شريط الفصول الوثائقي. سمعنا أنّ كل شيء يحترق. المنديل الذي فوق الكتفين سقط إلى الركبة. منحنياً. الظهر متّجهاً نحو الضوء. برزت جمجمة. فحص الأركان. أسود كعلامة. أصمّ مثل نشيد. حرية الخشب الصلد. رواية ملحمية.
* تقديم وترجمة عن الفرنسية خالد النجار