يشكل الحوار مع الروائي الفلسطيني ربعي المدهون فرصة كي نعود ونعيد الأذهان إلى روايته السابقة "السيدة من تل أبيب" التي يعتبرها هو نفسه روايته الأولى، فيما ذهب البعض إلى أنها الثانية بعد "طعم الفراق" التي كانت عبارة عن رواية سيرة.
وسأستفيد لغرض هذه العودة من مقاطع مداخلة قديمة كنت قدمتها في سياق الاحتفاء بصاحب الرواية.
تدور فكرة "السيدة من تل أبيب" حول فلسطيني يعود بجنسية أجنبية إلى قطاع غزة من طريق إسرائيل بعد غياب طويل، وحول مفارقات عودة كهذه. في البداية اختار الكاتب فلسطينيًا آخر للعودة كي يكتب عنها، لكن في مرحلة لاحقة قرّر الكاتب نفسه، تجاوبًا مع اقتراح زوجته، أن يقوم بنفسه بزيارة غزة متطلعًا إلى تحقيق هدفين: أولًا، زيارة أمه وأهله؛ ثانيًا، تتبع مسار روايته الأصلية والوقوف عن كثب على التفصيلات التي يمرّ بها البطل الأول في رحلته واختبارها. وهكذا فإنه تحوّل إلى مؤلف وبطل وراوية يبحث عن التفصيلات في الواقع والرواية، في الحقيقة وظلالها.
اقرأ أيضًا: صحة العقل
بطبيعة الحال، ترافق رحلة الكاتب أحداث وشخصيات ومصائر، وهو يسردها بأناة وعين فاحصة.
وثمة في الكتاب أكثر من رواية تحكي ذلك كله: هناك أولًا حكاية الرواية، وثانيًا حكاية "السيدة من تل أبيب" التي تقدّم قصة اللقاء مع شخصية إسرائيلية في الطائرة المتجهة إلى مطار تل أبيب، وثالثًا حكاية العودة إلى غزة وما انتهت إليه.
سارع الكاتب في حوارات أدلى بها إلى بضع صحف عربية إلى تأكيد أن "السيدة من تل أبيب" تنتمي إلى "الرواية الجديدة".
اقرأ أيضًا: الاستثناء والاستثنائي
ومعروف أنه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في خمسينيات القرن العشرين الفائت، ظهر شكل تجريبيّ في فرنسا للرواية عرف باسم الرواية الجديدة. ورفض أصحاب هذا الاتجاه السمات التقليدية للرواية التي كانت رائجة في ذلك الوقت، مثل الحبكة المنظمة والشخصيات واضحة المعالم، والتركيز على توصيف دقيق للأشياء والأحداث كما هي. ومثلت هذا الاتجاه، أكثر شيء، رواية "الغيرة" لآلان روب غرييه (1957). وتبنت بيانات كتاب الرواية الجديدة مجموعة رؤى تدعو إلى نبذ النموذج الروائي السائد الذي كان يوغل كثيرًا في تدوين الحدث من خلال السرد التقليدي أو الواقعي المباشر الذي يميل إلى الفلسفية على حساب الجسد الفني للنص الروائي، وكذلك التخلي عن أفكار ورؤى أنتجتها ثقافة مجموعات أو طبقات لها سطوتها في المجتمع.
من بين هؤلاء الكتاب يبدو المدهون أقرب إلى كلود سيمون، الذي تبنى طرحًا كان نتاجًا لرؤية ذاتية فيها الكثير من الجرأة والتجاوز للتقليدي والسائد من خلال محاولة جادة لابتكار شكل فني.
من خلال قراءة مسارات الحدث في نص كلود سيمون، نجد أن الخطوط المرتبطة بالثيمة الرئيسية تمتد لتتصل بثيمات ثانوية متتالية، والملفت للنظر أن التدفق اللغوي والتجسيد الوصفي لتلك الثيمات تتم معالجتهما بنفس القدر من الاهتمام بالثيمة الرئيسية، وهذه المعالجة تنتج مجموعة انفعالات تكشف بوضوح العلاقة الجدلية ما بين البؤرة الرئيسية للحدث والمحيط الزماني والمكاني، إذ لا يمكن لحدث أن ينمو ويتفاعل بمعزل عن المحيط، وكلما كانت الجدلية بين الحدث وامتداده مجسدة ومؤثثة فنيًا كانت الرؤية المطروحة محتكمة إلى ثراء فكري وصدقية أكثر تأثيرًا في ذاكرة القراءة التي تمثل هاجسًا مباشرًا لرؤية النص.
اقرأ أيضًا: هواجس الكتابة الروائية
تمثلت العلاقة بين المدهون والرواية الجديدة في طرح مجموعة مفاهيم أنتجها النص وليس العكس، بمعنى أن رؤيته التحديثية تجلّت في انشغاله بإنتاج ما يفكر فيه في لحظة معينة بشكل متوازن من حيث المؤثرات البيئية والدوافع النفسية التي تساهم في تدوين الحدث.
وما ترتب على ذلك كله، هو إقامة حالة من الانسجام في تدوين رؤية عميقة للواقع من خلال نسج صورة متخيلة مغايرة تمامًا لما يطرحه الأدب التقليدي الذي استهلك مساحة كبيرة من الذاكرة الأدبية.
بالموازاة أطلّت علينا غزة بما تحمله من دلالة المشهد الفلسطيني وتراجيديته. فالحياة فيها أشبه بعيش طارئ في حياة طارئة، عيش من أجل موت مضى والموت الذي سيأتي. غزة التي كبرت زمن تلك العودة "خمسين عامًا إلى الوراء". وقدّم الكاتب هذه العناوين ضمن لعبة سرد لحالات إنسانية تبدو لأول وهلة محدّدة إلا أنها تنطوي على معاني التجريد.
في الحوار الآن مع المدهون، رأى أن التجاءه إلى نهاية مفتوحة لنصّه الروائيّ يهدف إلى تفادي الجزم الذي يقتل النص. وبرأيي أن مثل هذه النهاية تنفي التفلسف أو الادعاء من ظاهر الكتابة، دون أن يعني ذلك انعدام أي تصور أو رؤية فلسفية في أفقها.
فضلًا عن ذلك، فالنهايات المفتوحة تترك أسئلة أكثر، وربما تحثّ القارئ على أن يشارك الكاتب في البحث عن إجابات، إذا ما كان غير كسول.
تدور فكرة "السيدة من تل أبيب" حول فلسطيني يعود بجنسية أجنبية إلى قطاع غزة من طريق إسرائيل بعد غياب طويل، وحول مفارقات عودة كهذه. في البداية اختار الكاتب فلسطينيًا آخر للعودة كي يكتب عنها، لكن في مرحلة لاحقة قرّر الكاتب نفسه، تجاوبًا مع اقتراح زوجته، أن يقوم بنفسه بزيارة غزة متطلعًا إلى تحقيق هدفين: أولًا، زيارة أمه وأهله؛ ثانيًا، تتبع مسار روايته الأصلية والوقوف عن كثب على التفصيلات التي يمرّ بها البطل الأول في رحلته واختبارها. وهكذا فإنه تحوّل إلى مؤلف وبطل وراوية يبحث عن التفصيلات في الواقع والرواية، في الحقيقة وظلالها.
اقرأ أيضًا: صحة العقل
بطبيعة الحال، ترافق رحلة الكاتب أحداث وشخصيات ومصائر، وهو يسردها بأناة وعين فاحصة.
وثمة في الكتاب أكثر من رواية تحكي ذلك كله: هناك أولًا حكاية الرواية، وثانيًا حكاية "السيدة من تل أبيب" التي تقدّم قصة اللقاء مع شخصية إسرائيلية في الطائرة المتجهة إلى مطار تل أبيب، وثالثًا حكاية العودة إلى غزة وما انتهت إليه.
سارع الكاتب في حوارات أدلى بها إلى بضع صحف عربية إلى تأكيد أن "السيدة من تل أبيب" تنتمي إلى "الرواية الجديدة".
اقرأ أيضًا: الاستثناء والاستثنائي
ومعروف أنه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في خمسينيات القرن العشرين الفائت، ظهر شكل تجريبيّ في فرنسا للرواية عرف باسم الرواية الجديدة. ورفض أصحاب هذا الاتجاه السمات التقليدية للرواية التي كانت رائجة في ذلك الوقت، مثل الحبكة المنظمة والشخصيات واضحة المعالم، والتركيز على توصيف دقيق للأشياء والأحداث كما هي. ومثلت هذا الاتجاه، أكثر شيء، رواية "الغيرة" لآلان روب غرييه (1957). وتبنت بيانات كتاب الرواية الجديدة مجموعة رؤى تدعو إلى نبذ النموذج الروائي السائد الذي كان يوغل كثيرًا في تدوين الحدث من خلال السرد التقليدي أو الواقعي المباشر الذي يميل إلى الفلسفية على حساب الجسد الفني للنص الروائي، وكذلك التخلي عن أفكار ورؤى أنتجتها ثقافة مجموعات أو طبقات لها سطوتها في المجتمع.
من بين هؤلاء الكتاب يبدو المدهون أقرب إلى كلود سيمون، الذي تبنى طرحًا كان نتاجًا لرؤية ذاتية فيها الكثير من الجرأة والتجاوز للتقليدي والسائد من خلال محاولة جادة لابتكار شكل فني.
من خلال قراءة مسارات الحدث في نص كلود سيمون، نجد أن الخطوط المرتبطة بالثيمة الرئيسية تمتد لتتصل بثيمات ثانوية متتالية، والملفت للنظر أن التدفق اللغوي والتجسيد الوصفي لتلك الثيمات تتم معالجتهما بنفس القدر من الاهتمام بالثيمة الرئيسية، وهذه المعالجة تنتج مجموعة انفعالات تكشف بوضوح العلاقة الجدلية ما بين البؤرة الرئيسية للحدث والمحيط الزماني والمكاني، إذ لا يمكن لحدث أن ينمو ويتفاعل بمعزل عن المحيط، وكلما كانت الجدلية بين الحدث وامتداده مجسدة ومؤثثة فنيًا كانت الرؤية المطروحة محتكمة إلى ثراء فكري وصدقية أكثر تأثيرًا في ذاكرة القراءة التي تمثل هاجسًا مباشرًا لرؤية النص.
اقرأ أيضًا: هواجس الكتابة الروائية
تمثلت العلاقة بين المدهون والرواية الجديدة في طرح مجموعة مفاهيم أنتجها النص وليس العكس، بمعنى أن رؤيته التحديثية تجلّت في انشغاله بإنتاج ما يفكر فيه في لحظة معينة بشكل متوازن من حيث المؤثرات البيئية والدوافع النفسية التي تساهم في تدوين الحدث.
وما ترتب على ذلك كله، هو إقامة حالة من الانسجام في تدوين رؤية عميقة للواقع من خلال نسج صورة متخيلة مغايرة تمامًا لما يطرحه الأدب التقليدي الذي استهلك مساحة كبيرة من الذاكرة الأدبية.
بالموازاة أطلّت علينا غزة بما تحمله من دلالة المشهد الفلسطيني وتراجيديته. فالحياة فيها أشبه بعيش طارئ في حياة طارئة، عيش من أجل موت مضى والموت الذي سيأتي. غزة التي كبرت زمن تلك العودة "خمسين عامًا إلى الوراء". وقدّم الكاتب هذه العناوين ضمن لعبة سرد لحالات إنسانية تبدو لأول وهلة محدّدة إلا أنها تنطوي على معاني التجريد.
في الحوار الآن مع المدهون، رأى أن التجاءه إلى نهاية مفتوحة لنصّه الروائيّ يهدف إلى تفادي الجزم الذي يقتل النص. وبرأيي أن مثل هذه النهاية تنفي التفلسف أو الادعاء من ظاهر الكتابة، دون أن يعني ذلك انعدام أي تصور أو رؤية فلسفية في أفقها.
فضلًا عن ذلك، فالنهايات المفتوحة تترك أسئلة أكثر، وربما تحثّ القارئ على أن يشارك الكاتب في البحث عن إجابات، إذا ما كان غير كسول.