ولد الشاعر العراقي علي رياض، في محافظة بابل عام 1993 وعاش في قضاء أبو غريب التابع لبغداد الذي اشتهر بسجنه، والذي يبعد 20 كيلومترا عن العاصمة.
بعد أن أنهى علي رياض دراسته الثانوية، التحق بإحدى جامعات بغداد ليدرس العلوم السياسية. صدر له ديوان "حين استيقظت ميتاً". وكان قد قال لتلفزيون "العربي" إنه عاش في قضاء أبو غريب الذي لا تُرى فيه حركة بعد غروب الشمس، والذي كان مصدر نصوصه الشعرية.
رسالة الجندي المحاصر إلى أمه
(1)
أمي
البياض يحيطني في الحلم واليقظة، ادع ربك أن يهب لي بعض السواد. لقد شحبت السماء فصارت خرقة من هذه الأرض، وربما فتقت فرقعها بحفنة الثلج التي امتدت كثيرا.
قالوا الأرض دافئة، لكنها تحفظ في قلبها النار عميقا، وعلى وجهها يتجمد الصخر والأشجار والجنود.. النار تأتي، لكنها تمر عبر جلودنا وتذوي سريعا، قال أخي في الثكنة المجاورة، لو يمكن تعبئة الحرارة، وحدّق في ولاعة تهتز في يده، حدق فيها حتى أثقل الثلج على رموشه السوداء جفنيه ونام.
هل تذكرين وشاحي البني؟ غزلتِ صوفه في عامي الدراسي الأول، وقلتِ قبل الحرب خذه معكَ، صنعته كبيرا ليصبح الآن تميمة حظكَ، وطلسم الحفظ، عليه وسم يدي التي تدفئ رقبتكَ وصدركَ، لقد جرح أخي وشددت يا أمي جرحه بالوشاح حين نفد الضماد قبل أن يتجمد الدم في جرحه، لو رأيتِه لكنتِ صنعتي له حساء العدس كل يوم جمعة، لكنه مات وإياه الوشاح.
أمس، كنا نسجل نقاط العدو برمي الكرات، كل كرة تدخل الحفرة نقطة.. انتهت رمياته عند خمس عشرة نقطة وثلاثة شهداء وستة جرحى، كان العدو في أفضل أيامه لكنه لم يصب حفرتي سوى بحفنة ثلج مخلوطة بالتراب، وبضع قطرات دم أصاب بعضها وجهي.
اليوم قالوا لنا أن نترك الحفر ونمضي نحوهم، ثمة طائرات ستفتح لنا الطريق.. قولي لأبي: ابنك الذي عاش ولم يشبهك وصل الكمال بالضد منك، سيخرج من حصار الثلج حين خرجت أنت من حصار النار، لكنه سيشبهك إذا ما جاء قربك، فكلاكما سقط على عتبات حصاره.
(2)
بين شاهدتين متوازيتين يفصل اسمان وبضعة أعوام بينهما، تجلس الأم، كأنها العلم في نصب الشهيد، تقرأ الرسالة على الأب، وتغزل وشاحا صغيرا لحفيدها القادم.
أرض الشك
أنا الساكن الوحيد في هذا العالم المسرع، لم أبرح مكاني حينما نبت الشوك، حتى صار مذاق شفتي مرا فلم تقبل الحياة فمي. أوصدت باب اليقين في قلبي فصار الشك أرضا لي، ومذاك روحي تبتعد، كلما أقدمت في المضي طرقت الأسئلة قلبي.
أرخيت ستائري فجاءني الحب يمتطي ضوء النهار، لم أدرِ أن انكساري سيفرق الضوء بهذه القسوة، يومها أمسكت بياقتي الهواء:
انظر لي! هذه عيناي تقطر الأحبار من جفنيها، وهذا الوجه ليس فراشة، جرحتني الولادة فسال أسفل تيارك دما أسود، يكتب الأيام على ورق رقيق، لم تجفف دمي أيها الهواء ولم أفقه من الأيام غير البقع السوداء الكبيرة.
أيها الألم.. آه أيها الحقيقي سواك اليقين، حتى الموت كذبة، زارني مرات ومرات وما أن يصفع وجهي الضوء يذوب في عتمة الوهم أو كما يسميها النيام عتمة النوم. سواك اليقين لساكن مثلي.
قالت الكتب العتيقة: إن العارف يغمض عينيه ويمد أنامله عبر الهواء فيلمس قلب العالم. أما أنا فسقطت في الظلمة وفتحت صدري للهواء المرائي، خفق قلبي ومر في أناملي الدم براقا بما يكفي ليضيء درب القلب، بحثت طويلا حتى أدركت أن لا قلب لهذا العالم.
أغنية الغياب
في هذه الزاوية أو تلك
في قرية بعيدة لا أعرفها، أو بيت مهجور مجاور
في باحة سحرية واسعة، حيث ترقص حبات الغبار البالييه على أرضها البيضاء.
تمر نظرتي بطيئة ثم تذوي.
في مسامات الضوء الأخيرة، بين خيوط غزله الحمراء
في لحظة بطيئة سعيدة كالزفير الطويل، كالنقطة في ذيل القصيدة
في الماء ابتلعه، يقف لحظة في الحلق، لحظة كالموت الكاذب، ثم يمر..
تمر خفقة في قلبي، كأنها تنادي.
في ريشة ملونة على جناح طائر حلم أبيض
في قطرة مطر وحيدة تسقط من سقف الغرفة على جبيني
في لحظة العتمة في قلب الصباح الباهر، يضيق محيط العتمة معه حدقتيَّ
على الجانب الآخر من سريري، تمر يدي في الفراغ.
سيرة ناقصة أو مشوهة
(1)
ماذا يعرف الإنسان عن سيرته سوى الألم؟
عبر ضوء ساطع تتأرجح الخيوط، معلقة بمرآة السائق الغافل، الظهيرة تفرش جلبابها على الطريق، وقطرة العرق تقطع أياما على وجهي وتمضي بعيدا.. كان البستان قفرا من سواي، على غصني الفتي نمت براعم خضراء، وكانت جذوري تأكل في قسوة الأرض نفسها، لقد مضى زمن طويل على براعمي خضراء.
بجانب أبي؛ أنا الصورة الوسيمة من علته. وفي الغد القريب أراني؛ صورة من وجه أمي العجوز، متى بدأت ذراعها اليمنى بالتصدع، ونمت على سطح عظام ساقيها ثآليل الألم؟
يرى دوريان كراي في الحلم لوحته، تزين وجهها من خطاياه أمام مرآته الفضية، يراها يافعة مجددا ولا يصحو من النوم.
(2)
ماذا يعرف الإنسان عن سيرته سوى الألم؟
الأفق يعتم، غير بقعة حمراء كانفجار جامد في أوله، يصبغ بالدم أطراف الخيوط ويرمى الظلال على ما تبقى، سيجارة تحيي الشتاء في آخر أيار، كان التلفاز صغيرا، ووطأة الحلم على الرأس خفيفة، يخرج أبو الطيب من التلفاز ويدخل رأسي..
- المسدسات والبنادق..
- يا بني دع العروض، وتذكر: أنت الغريب كصالح في ثمود.
مذاك والورقة البيضاء تأخذني، بعيدا، كلما سقطت عيناي على الإنسان.
لا بستان بعد ذلك، فالكلمة أخت الكلم، وكلاهما ينزف ما يشاء على ما يشاء.
(3)
ماذا يعرف الإنسان عن سيرته سوى الألم؟
ينعطف السائق مخلّفا مخازن الذرة وراءه، الشارع خالٍ تماما من سيارات أخرى، والطريق طويلة كأن الجسر آخره في أول العالم الآخر.. تراقص الحمى يدي، على دفتر الرياضيات، تدون الكابوس تلو الآخر، قرب أستاذ سلام شبح يمحو ما يكتب على اللوح من أرقام، وبجانبي متنمر انتظره يسرق قلمي من يدي ولا يفعل.
يقول الطبيب صارح فتاتك التي تحب.. وعند الجسر كانت أسماؤهن تقفز في رأسي كقتلى الحرب أو شموع سنيني المطفأة.
(4)
ماذا يعرف الإنسان عن سيرته سوى الألم؟
في البيت أرى أصابع العازف تطلق نوتات جايكوفسكي عبر سماعه، تعرقت يداه، ويداي على لوحة المفاتيح تعرقتا أيضا، يهدأ البيانو بينما يُسحب القوس ببطء جارح على أوتار الكمان..
السعادات القديمة تؤلم حين تتأرجح في الرأس، كما الضوء ملكوت العين، الألم ملكوت الذكرى. أفكر في البندول في كل عودة ماذا يرى، يكرر اللحظة ولا يتعلم أن مكان الوقوف في الذهاب لا بالعودة..
في الأمس قال الصوفي للعارف: مفتاح القصيدة سيرة الشاعر، واليوم أبحث في كل الثنايا عن سيرة سوى الألم دون جدوى.. ثمة دمعة في مكان ما، وشهقة حتى اللحظة عصية على الكتابة.