قليلون نسبيًا الباحثون العرب في التاريخ، والأقل منهن الباحثات العربيات. وعادة ما يحتل المشرق ومصر والعراق، الحيّز الأكبر في أبحاثهم. ويبدو أن لدى الباحثة والمؤرخة اللبنانية أمل غزال، وجهة نظر، تبيّن تأثير منهجية معينة في توجيه الأبحاث صوب "الدراسات الإقليمية" التي تتخذ من المكان والحدود الواضحة، أساسًا رافعًا لها، خلافًا لغزال التي تشجع منهجية شبكية، تأخذ في الاعتبار أثر الصحافة وحركة انتقال الناس في نشر الأفكار والمفاهيم.
* اشتركت في المؤتمر السنوي الثالث للدراسات التاريخية الذي أقامه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" منذ فترة قصيرة في بيروت. وكان بحثك بعنوان: "تاريخ العرب الحديث: بين التقسيم الإقليمي والتهميش المذهبي والإثني: الإباضية مثالًا". حدثينا عن هذا البحث.
يتطرق هذا البحث إلى موضوع تهميش الجزيرة العربية والشمال والشرق الأفريقيين والصحراء في عملية التأريخ العربي، ومعه تهميش المجتمعات الإباضية في تلك المناطق. فالسرد العربي الحديث يمر مرور الكرام على الدولة البوسعيدية في القرن التاسع عشر، التي شملت عُمان والشرق الأفريقي وبلوشستان، ويغفل الحكم العماني في زنجبار الذي رافق توسع هذه الدولة واستمر حتى سنة 1964. فالحكم العُماني في زنجبار، له دور كبير في نشر المطبوعات العربية وتعريب الساحل الشرقي لأفريقيا، كما أنه لعب دورًا بارزًا في مشروع النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ورغم ذلك، لا يجد موقعاً له ولو عرضيًا في سردية تاريخ العرب الحديث.
* لماذا لا يجد موقعه المناسب في سردية التاريخ العربي الحديث طالما أنه لعب دورًا بارزًا في مشروع النهضة العربية؟
ربما يعود السبب إلى توسّع الحكم البوسعيدي جنوبًا باتجاه المحيط الهندي وشرق أفريقيا بعيدًا من "مراكز الثقل" المتعارف عليها. لكن المغفل عنه تاريخيًا، هو دور سلاطين زنجبار العُمانيين في دعم النهضة العربية وأركانها ماديًا ومعنويًا، وتأثّر النخبة العمانية المثقفة في زنجبار بمفاهيم النهضة ولاحقاً بالفكر العربي القومي، ما أنتج خطاباً سياسيًا بين أفراد هذه النخبة حدّد هوية زنجبار بالعروبة وبالانتماء للعمق العربي حضاريًا وسياسيًا. فقد دفع العمانيون وغيرهم من العرب في زنجبار ثمن هذا الخطاب غاليًا سنة 1964 عقب الثورة التي أنهت الحكم العربي، وأعادت صوغ هوية زنجبار ببُعد قومي أفريقي معادٍ لأي إدعاء بهوية عربية للجزيرة أو الساحل الشرقي لأفريقيا.
اقــرأ أيضاً
* يبدو أن لديك مآخذ على أساليب التأريخ العربي وكيفيته والمراكز التي يطالها.
ما زال ينقص تاريخ العرب الحديث سردية عامة تحتضن شعوبه المتنوعة عرقيًا ودينيًا وثقافيًا. لا أعني بالسردية هنا مجرد سرد زمني يشمل كل مناطق العالم العربي، بل سردية تقوم بإنتاج تاريخ مترابط مبني على حلقات وصل بين مختلف المناطق من حيث التفاعل والتأثير في الأحداث. فما زالت عملية التأريخ للحقبة الحديثة تأخذ من المشرق وعواصمه مركزًا محوريًا، مع ترك المغرب والصحراء وكذلك الجزيرة العربية في مواقع سردية هامشية ضمن الإطار التاريخي الشامل.
ورغم الجهود الكبيرة التي قام بها مؤرخو الشمال الأفريقي منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، في إلقاء الضوء على دور منطقة الشمال الأفريقي في تاريخ العرب الحديث، خاصة جهود "مخبر دراسات مغاربية" في تونس، إلا أننا ما زلنا نفتقد منهجية نستطيع من خلالها ربط المناطق العربية بعضها بالبعض، من حيث أدوارها المتشابكة في بلورة تاريخ عربي عام، وخلق نوع من التوازن في إبراز هذه الأدوار. ويمكن القول إن ما بدأه ألبرت حوراني كإطار عام لتاريخ العرب الحديث في كتابه "الفكر العربي في العهد الليبرالي"، ما زالت أطره العامة معتمدة إلى حد كبير من حيث التمركز في المشرق.
* بناءً على ذلك، ما هي منهجية البحث والتأريخ التي تظنين أنها قد تؤدي إلى احتضان شعوب العالم العربي المتنوعة عرقيًا ودينيًا وثقافيًا، أقصد المنهجية التي تقوم بإنتاج تاريخ مترابط؟
إنها منهجية "الشبكية" (Network)، التي قد تكون إحدى البدائل عن المنهجية الإقليمية. فهي تتيح للمؤرخين أن يتعقبوا حلقات التواصل بين أطراف العالم العربي وصياغة سرديات مترابطة. وبرأيي، فإن للدراسات الإقليمية دورًا كبيرًا في عملية شرذمة التأريخ العربي، إذ تفشل بطبيعتها وطبيعة تقسيمها، في تتبّع الروابط بين المجتمعات العربية المتعددة. فما يُعرف بدراسات "الشرق أوسطية"، يغفل البعد الأفريقي لتاريخ العرب إن كان الشمال الأفريقي أو الشرق الأفريقي أو الصحراء. ومن ناحية أخرى، فإن الدراسات الأفريقية تركّز على منطقة جنوب الصحراء أو ما يعرف في خطاب المستشرقين الأوائل بأفريقيا السوداء. وبين هذا وذاك والهوة في ما بينهما، تغيب مجتمعات عديدة عن السردية التاريخية، ويضيع معها إرث فكري ومساهمات شاركت في بلورة الإطار العام للتاريخ العربي.
تبرز إخفاقات الدراسات الإقليمية بشكل واضح في الحقبة الحديثة، نظرًا إلى ما شهدته هذه الحقبة من طفرة في وسائل الاتصالات متمثلةً بسرعة الحركة عبر وسائل النقل الحديثة أو سرعة النشر عبر الثورة في فن الطباعة والنشر. وقد تركت هذه المستجدات منذ أواسط القرن التاسع عشر أثرًا كبيرًا في كيفية تشابك المجتمعات بعضها بالبعض، وانتشار الأفكار في ما بينها، ما ولّد نماذج جديدة من التأثير والتأثر بين مختلف المناطق.
اقــرأ أيضاً
* لكن لطالما كانت منهجية الدراسات الإقليمية في التأريخ، الطريقة التي يتبعها المؤرخون العرب وربما غيرهم من مؤرخي العالم، فهي تحصر التأريخ مكانيًا وزمانيًا. لماذا لم تعد مجدية الآن؟
أثبتت منهجية الدراسات الإقليمية أنها عاجزة عن رصد التطورات والتغييرات العابرة للحدود والأقاليم. وقد كان تركيز الدراسات الإقليمية على الدولة الوطنية وحدودها كوحدة تحليل تاريخية. لئن كانت هذه الحدود أحيانًا مهمّة لتحليل الأحداث والتطورات في دائرتها، إلا أنها تعيق رؤية العلاقات والتأثيرات عبر هذه الحدود.
الانتقادات المستمرة للدراسات الإقليمية تركّز على النواحي السياسية، ولكنها لا تتطرق لأطرها الابستمولوجية والمنهجية. فإن كان هناك من يظن أن هذه الدراسات الإقليمية شرٌ لا بد منه، إما من حيث ارتباطها المستمر بمؤسسات التعليم العالي خاصة في الغرب، أو باعتبارها تحدد جغرافية معينة يسهل من خلالها تحديد الاختصاصات، فنحن على الأقل بحاجة لحوار بين هذه الدراسات الإقليمية يزيل الحدود المصطنعة والمفتعلة في ما بينها.
من هنا يأتي اقتراح منهجية بديلة تزيل الحدود أو تخترقها، ولا تحدد مركزية جغرافية معينة عن سابق إصرار وتصوّر، وتكون قادرة على تتبع وتحليل التواصل والتفاعل بين الشعوب والأقاليم. وأقترح هنا الشبكية (Network) كمنهجية تاريخية من شأنها أن تحقق ما تعجز عنه الدراسات الإقليمية، فتلقي الضوء على جوانب مستترة أو مهمشة من التاريخ العربي، وترصد تنقّل الأفكار والأشخاص عبر هذه الحدود الجغرافية والسردية.
* إذن لا بدّ من السؤال عن منهجية "الشبكية" نفسها في التأريخ. ما الذي ستغيّره في أطر التأريخ العربي، وفي المادة التاريخية التي ستنتج عن اعتماد هذه المنهجية؟
الشبكة عبارة عن مجموعات بشرية واجتماعية تربطها معًا مصالح وأهداف مشتركة، وتبني لنفسها أدوات تواصل تعبّر وتنشر من خلالها آرائها وأهدافها. وقد تكون لهذه المجموعات مصالح اجتماعية واقتصادية مشتركة، لكن الأساس المشترك إيديولوجي وفكري. وثورة المواصلات والاتصالات الحديثة تزيد من أهمية الشبكة كمنهجية لدراسة التاريخ الحديث، نظرًا إلى ما أتاحته من كثافة وسرعة في التواصل والاتصال. فتكوين الشبكة كشبكة بشرية ونجاحها في خلق الترابط بين الأعضاء، مرتبطٌ بعوامل مادية، إذ استفادت من الثورات في عالم الاتصالات والنقل في العصر الحديث كالطباعة الحديثة وسرعة التنقل، ما سهّل على أعضائها التواصل والترابط ونشر أفكارهم على نطاق واسع. فالجرائد مثلًا، أدت دورًا جذريًا في بلورة هذه الشبكات، حيث إنها عملت على نقل الأفكار من منطقة إلى أخرى، وعلى إنشاء فضاء فكري لمناقشة ومعالجة قضايا تخص العالم العربي برمّته. لذا فإن الجرائد مصادر أساسية للمؤرخين، ليس فقط من أجل فهم الترابط بين الأفراد والمناطق، بل أيضًا من أجل فهم تأثير هذا الترابط العابر للحدود، على التواريخ المحلية، ما يعطي لمفهوم التاريخ العربي بعدًا جديدًا.
اقــرأ أيضاً
فتحليل محتوى الجرائد يساعد على رصد التفاعلات الفكرية المتنقلة من منطقة إلى أخرى، ما يتيح فرصة كتابة سردية مترابطة. تزداد أهمية الشبكة كعامل تواصل بعد الحرب العالمية الأولى، وما أعقبها من تقسيمات سياسية في المنطقة العربية ومن توسّع نُظم الاستعمار. إذ إن زوال النظام العثماني ورسم حدود مناطقه السابقة يوحيان بالتفكك لا بالتشابك، ولكن أي تحليل دقيق للأحداث في تلك الحقبة ورصد سيَر الشخصيات المؤثرة في الأحداث، خاصة تلك التي نشطت ضد الاستعمار وعملت في إطار مشاريع وحدوية، يُرينا أن الارتباطات والاتصالات بين المناطق استمرت أو حتى في بعض الحالات زادت حدّتها. نرى مثلًا أن سياسة النفي للنشطاء السياسيين، كشكيب أرسلان وعبد العزيز الثعالبي وسليمان الباروني وغيرهم، التي اتبعتها حكومات الاستعمار، أدت عمليًا إلى نشر الأفكار المناهضة للاستعمار مع تنقّل المنفيين من بلد لآخر.
* ما الذي جذبك في مادّة التاريخ؟
أحببتُ مادّة التاريخ لأنّ طريقة تعليمها في الجامعة كانت تختلف عن طريقة تعليمها في المدارس، وتتضمّن أبحاثًا علينا القيام بها وقضاء ساعات طويلة في المكتبة والنقاشات، كلّ الأمور التي أحبّها، كانت تتعلّق بطريقة أو بأخرى في مادّة التاريخ.
وكان الأمر متناسبًا مع حال الجامعة الأميركيّة في تلك الآونة، إذ كانت تعج بالتيّارات الفكرية والسياسية القائمة على إيديولوجيات ذات مصادر تاريخية عديدة. وقد أثّر هذا الجوّ الجامعي في تكويني الفرديّ، لكن بشكل مختلف عن المتوقع. فرغم تربيتي في قب الياس في عائلة علمانيّة مع عمّي الذي كان ذا تأثير كبير عليّ، إلا أنني انجذبت في الجامعة الأميركيّة إلى التيّارات الدينيّة، إلى الجماعة الإسلاميّة بالتحديد، وقد تغيّرت طريقة تفكيري بالكامل، وارتديت الحِجاب. الآن أراه بأنه كان مجرد اهتمام سياسيّ من منطلق فكريّ ديني.
* كيف تفسّرين هذا التحوّل الكبير؟
كنتُ مهتمّة بالتيّارات السياسيّة والفكريّة، وقد فتح لي مجيئي إلى بيروت نافذة كبيرة تطلّ على عالم كبير ومختلف. وأظنّ أيضاً أنّ للأمر علاقة بفترة التسعينيات عينها، حين بدأ صعود التيّار الإسلاميّ. وكتفسير نفسيّ لهذا التحوّل، أظنّ أنّني كفتاة صغيرة قادمة من البقاع إلى هذه المدينة الكبيرة وواسعة الاختلاط، كان من الأسلم والأنسب لي أن أختار الخطّ المحافظ. إذ من المعروف أنّ الذي اعتاد العيش في بيئة ضيّقة، من الممكن أن يقوم بردّة فعل عكسيّة إذا ما انتقل إلى بيئة واسعة ومنفتحة كبيروت.
اقــرأ أيضاً
وهناك جزء آخر متصّل بعائلة والدتي، فجدي والد والدتي كان إماماً في قب الياس، واسمه عبد الرحمن المجذوب، وقد اختطفته المخابرات السورية سنة 1976. وكان تأثير جدي عليّ ثقافياً وسياسيًا في آن. فنظرًا إلى أنه كان إمام مسجد وخطيب، فقد كانت له مواقف في السياسة، كانت تتعلق وقتها بالوجود والدور السوري في لبنان. وقضيّة اختطافه، حفّزت فيّ المزيد من الرغبة في السياسة أو في التسيّس.
* إذن، كانت المؤثرات الفكرية مختلطة ما بين العلمانية اليسارية العروبية، وبين العروبية الإسلامية. كيف أمكنك التقريب بينها؟
رغم أن جدي كان رجل دين، إلا أنه سمح لوالدتي بالزواج من والدي اليساري العلماني. وقد كانت القضية الفلسطينية هي ما يجمع العائلة المتّحدة والمختلفة إيديولوجيًا. فكنت أنظر إلى القضية من خلال رؤيتين: رؤية والدي العلماني والمناضل وفقًا لإيديولوجيا وطنية وعروبية، ورؤية جدي الإمام المناضل من منطلق ديني وعروبي أيضًا. رغم أنّني تربيّت في بيت غير متديّن، لكنني أملك اهتمامًا فكريًا بهذه الشخصيّة المتديّنة. ولطالما كان لديّ الفضول لأتعرف أكثر على جدّي، الرجل الذي آوى في منزله، أيّام صراع جمال عبد الناصر مع الإخوان المسلمين، الشيوخ المصريين الهاربين من مصر. كان جدي يحبّ عبد الناصر كثيراً، من منطلق عروبي، ولكنه كان غاضبًا منه لأنّه يطرد جماعات متديّنة. الخلط بين الديني الإسلامي والقومي العروبي، لطالما حيّر كثيرين من مناضلي تلك الحقبات. وربما ما زال إلى الآن.
* كان قاضي محكمة بيروت يوسف النبهاني موضوع رسالتك في الماجستير. لِمَ اخترته؟
اخترت يوسف النبهاني لأنه كان ضدّ حركة محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا الإصلاحيّة، وكان يمتلك مفاهيمه الخاصّة. وهو رجل دين من فلسطين وقد عُيّن في محكمة الاستئناف في بيروت، وكان ذا فكر صوفي معادٍ للتيار الإصلاحي. كان التركيز ضمن دراستي على عصري النهضة والتنوير. وجاء النبهاني ليذكّرنا بأن هناك معاداة لهذا الفكر على أسس إسلاميّة، وكان يخاف على الفكر الصوفيّ من الممارسات الإسلاميّة، إذ كان التيّار الإصلاحيّ ضدّ الصوفيّين. وقد كان التصوّف طاغيًا كممارسات وطقوس شعبيّة في أواخر القرن التاسع عشر والعشرين.
كان في نظر القاضي النبهاني أنّ التيّار الإصلاحيّ يُخرّب الإسلام عن طريق دفع الناس إلى الاجتهاد، ما سيسمح لأوروبا بالتدخل، وهي العدو الذي باستطاعته تدمير الدولة العثمانية. كان خائفًا على مصير الدولة العثمانية من التيار الإصلاحي بسبب علاقاته المتينة مع نظام السلطان عبد الحميد. وبعد سنة 1908 خسر وظيفته، وتحوّلت أفكاره إلى سياسية فقط، كانت تتراءى له في الأحلام كما يدعي، ولم يعد يتمكن من نشر فكره كما في السابق.
اقــرأ أيضاً
* ماذا كان هدفك من هذا البحث؟
كان هدفي في هذا البحث أن أسلّط الضوء على الفكر المعادي للفكر التنويري الإصلاحي، الموضوع الذي لم يُركَّز عليه من قبل. واهتممتُ كثيراً بآرائه المُحارِبة للتيار. والجميل في هذا الموضوع أن ما فكّر به النبهاني قد حصل فعلاً، إذ أدخل الإصلاح الأفكار الأوروبيّة أكثر إلى مجتمعاتنا، فأُصيبت العلاقات الاجتماعية والسلطوية بالخلل. وكان النبهاني رجل دين متحفظّ وتقليديّ للغاية. خاف على التراث الإسلامي وعلى الفكرة العثمانية. كلّ الأمور تقريباً التي تخوّف منها قد حدثت فعلاً. استعمل مناماته للتنبيه والإدلاء بآرائه، علمًا أنّ المنامات والأحلام لها أهميّة كبيرة كالفتاوى في العالم الإسلاميّ.
* كيف تبدو لك الأوضاع العربيّة الراهنة؟
هناك مشاكل كبيرة جداً، ولكن في الوقت عينه هناك نوع من الزخم والاندفاع إلى التغيير وللحياة رغم كلّ الصعوبات. وأنا، استنادًا إلى طبيعتي سأبقى متفائلة، أنظر إلى الجوانب الإيجابيّة على الدوام. تمرّ المنطقة بمرحلة صعبة للغاية، وعبر أنظمة فساد عميق، وإهمال للعلوم الإنسانيّة والاجتماعية. نحن بحاجة إلى مفكرين ينتشلون المنطقة من الفوضى، ولسنا بحاجة إلى رجال أعمال ومهندسين وأطبّاء.
يتطرق هذا البحث إلى موضوع تهميش الجزيرة العربية والشمال والشرق الأفريقيين والصحراء في عملية التأريخ العربي، ومعه تهميش المجتمعات الإباضية في تلك المناطق. فالسرد العربي الحديث يمر مرور الكرام على الدولة البوسعيدية في القرن التاسع عشر، التي شملت عُمان والشرق الأفريقي وبلوشستان، ويغفل الحكم العماني في زنجبار الذي رافق توسع هذه الدولة واستمر حتى سنة 1964. فالحكم العُماني في زنجبار، له دور كبير في نشر المطبوعات العربية وتعريب الساحل الشرقي لأفريقيا، كما أنه لعب دورًا بارزًا في مشروع النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ورغم ذلك، لا يجد موقعاً له ولو عرضيًا في سردية تاريخ العرب الحديث.
* لماذا لا يجد موقعه المناسب في سردية التاريخ العربي الحديث طالما أنه لعب دورًا بارزًا في مشروع النهضة العربية؟
ربما يعود السبب إلى توسّع الحكم البوسعيدي جنوبًا باتجاه المحيط الهندي وشرق أفريقيا بعيدًا من "مراكز الثقل" المتعارف عليها. لكن المغفل عنه تاريخيًا، هو دور سلاطين زنجبار العُمانيين في دعم النهضة العربية وأركانها ماديًا ومعنويًا، وتأثّر النخبة العمانية المثقفة في زنجبار بمفاهيم النهضة ولاحقاً بالفكر العربي القومي، ما أنتج خطاباً سياسيًا بين أفراد هذه النخبة حدّد هوية زنجبار بالعروبة وبالانتماء للعمق العربي حضاريًا وسياسيًا. فقد دفع العمانيون وغيرهم من العرب في زنجبار ثمن هذا الخطاب غاليًا سنة 1964 عقب الثورة التي أنهت الحكم العربي، وأعادت صوغ هوية زنجبار ببُعد قومي أفريقي معادٍ لأي إدعاء بهوية عربية للجزيرة أو الساحل الشرقي لأفريقيا.
* يبدو أن لديك مآخذ على أساليب التأريخ العربي وكيفيته والمراكز التي يطالها.
ما زال ينقص تاريخ العرب الحديث سردية عامة تحتضن شعوبه المتنوعة عرقيًا ودينيًا وثقافيًا. لا أعني بالسردية هنا مجرد سرد زمني يشمل كل مناطق العالم العربي، بل سردية تقوم بإنتاج تاريخ مترابط مبني على حلقات وصل بين مختلف المناطق من حيث التفاعل والتأثير في الأحداث. فما زالت عملية التأريخ للحقبة الحديثة تأخذ من المشرق وعواصمه مركزًا محوريًا، مع ترك المغرب والصحراء وكذلك الجزيرة العربية في مواقع سردية هامشية ضمن الإطار التاريخي الشامل.
ورغم الجهود الكبيرة التي قام بها مؤرخو الشمال الأفريقي منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، في إلقاء الضوء على دور منطقة الشمال الأفريقي في تاريخ العرب الحديث، خاصة جهود "مخبر دراسات مغاربية" في تونس، إلا أننا ما زلنا نفتقد منهجية نستطيع من خلالها ربط المناطق العربية بعضها بالبعض، من حيث أدوارها المتشابكة في بلورة تاريخ عربي عام، وخلق نوع من التوازن في إبراز هذه الأدوار. ويمكن القول إن ما بدأه ألبرت حوراني كإطار عام لتاريخ العرب الحديث في كتابه "الفكر العربي في العهد الليبرالي"، ما زالت أطره العامة معتمدة إلى حد كبير من حيث التمركز في المشرق.
* بناءً على ذلك، ما هي منهجية البحث والتأريخ التي تظنين أنها قد تؤدي إلى احتضان شعوب العالم العربي المتنوعة عرقيًا ودينيًا وثقافيًا، أقصد المنهجية التي تقوم بإنتاج تاريخ مترابط؟
إنها منهجية "الشبكية" (Network)، التي قد تكون إحدى البدائل عن المنهجية الإقليمية. فهي تتيح للمؤرخين أن يتعقبوا حلقات التواصل بين أطراف العالم العربي وصياغة سرديات مترابطة. وبرأيي، فإن للدراسات الإقليمية دورًا كبيرًا في عملية شرذمة التأريخ العربي، إذ تفشل بطبيعتها وطبيعة تقسيمها، في تتبّع الروابط بين المجتمعات العربية المتعددة. فما يُعرف بدراسات "الشرق أوسطية"، يغفل البعد الأفريقي لتاريخ العرب إن كان الشمال الأفريقي أو الشرق الأفريقي أو الصحراء. ومن ناحية أخرى، فإن الدراسات الأفريقية تركّز على منطقة جنوب الصحراء أو ما يعرف في خطاب المستشرقين الأوائل بأفريقيا السوداء. وبين هذا وذاك والهوة في ما بينهما، تغيب مجتمعات عديدة عن السردية التاريخية، ويضيع معها إرث فكري ومساهمات شاركت في بلورة الإطار العام للتاريخ العربي.
تبرز إخفاقات الدراسات الإقليمية بشكل واضح في الحقبة الحديثة، نظرًا إلى ما شهدته هذه الحقبة من طفرة في وسائل الاتصالات متمثلةً بسرعة الحركة عبر وسائل النقل الحديثة أو سرعة النشر عبر الثورة في فن الطباعة والنشر. وقد تركت هذه المستجدات منذ أواسط القرن التاسع عشر أثرًا كبيرًا في كيفية تشابك المجتمعات بعضها بالبعض، وانتشار الأفكار في ما بينها، ما ولّد نماذج جديدة من التأثير والتأثر بين مختلف المناطق.
أثبتت منهجية الدراسات الإقليمية أنها عاجزة عن رصد التطورات والتغييرات العابرة للحدود والأقاليم. وقد كان تركيز الدراسات الإقليمية على الدولة الوطنية وحدودها كوحدة تحليل تاريخية. لئن كانت هذه الحدود أحيانًا مهمّة لتحليل الأحداث والتطورات في دائرتها، إلا أنها تعيق رؤية العلاقات والتأثيرات عبر هذه الحدود.
الانتقادات المستمرة للدراسات الإقليمية تركّز على النواحي السياسية، ولكنها لا تتطرق لأطرها الابستمولوجية والمنهجية. فإن كان هناك من يظن أن هذه الدراسات الإقليمية شرٌ لا بد منه، إما من حيث ارتباطها المستمر بمؤسسات التعليم العالي خاصة في الغرب، أو باعتبارها تحدد جغرافية معينة يسهل من خلالها تحديد الاختصاصات، فنحن على الأقل بحاجة لحوار بين هذه الدراسات الإقليمية يزيل الحدود المصطنعة والمفتعلة في ما بينها.
من هنا يأتي اقتراح منهجية بديلة تزيل الحدود أو تخترقها، ولا تحدد مركزية جغرافية معينة عن سابق إصرار وتصوّر، وتكون قادرة على تتبع وتحليل التواصل والتفاعل بين الشعوب والأقاليم. وأقترح هنا الشبكية (Network) كمنهجية تاريخية من شأنها أن تحقق ما تعجز عنه الدراسات الإقليمية، فتلقي الضوء على جوانب مستترة أو مهمشة من التاريخ العربي، وترصد تنقّل الأفكار والأشخاص عبر هذه الحدود الجغرافية والسردية.
* إذن لا بدّ من السؤال عن منهجية "الشبكية" نفسها في التأريخ. ما الذي ستغيّره في أطر التأريخ العربي، وفي المادة التاريخية التي ستنتج عن اعتماد هذه المنهجية؟
الشبكة عبارة عن مجموعات بشرية واجتماعية تربطها معًا مصالح وأهداف مشتركة، وتبني لنفسها أدوات تواصل تعبّر وتنشر من خلالها آرائها وأهدافها. وقد تكون لهذه المجموعات مصالح اجتماعية واقتصادية مشتركة، لكن الأساس المشترك إيديولوجي وفكري. وثورة المواصلات والاتصالات الحديثة تزيد من أهمية الشبكة كمنهجية لدراسة التاريخ الحديث، نظرًا إلى ما أتاحته من كثافة وسرعة في التواصل والاتصال. فتكوين الشبكة كشبكة بشرية ونجاحها في خلق الترابط بين الأعضاء، مرتبطٌ بعوامل مادية، إذ استفادت من الثورات في عالم الاتصالات والنقل في العصر الحديث كالطباعة الحديثة وسرعة التنقل، ما سهّل على أعضائها التواصل والترابط ونشر أفكارهم على نطاق واسع. فالجرائد مثلًا، أدت دورًا جذريًا في بلورة هذه الشبكات، حيث إنها عملت على نقل الأفكار من منطقة إلى أخرى، وعلى إنشاء فضاء فكري لمناقشة ومعالجة قضايا تخص العالم العربي برمّته. لذا فإن الجرائد مصادر أساسية للمؤرخين، ليس فقط من أجل فهم الترابط بين الأفراد والمناطق، بل أيضًا من أجل فهم تأثير هذا الترابط العابر للحدود، على التواريخ المحلية، ما يعطي لمفهوم التاريخ العربي بعدًا جديدًا.
* ما الذي جذبك في مادّة التاريخ؟
أحببتُ مادّة التاريخ لأنّ طريقة تعليمها في الجامعة كانت تختلف عن طريقة تعليمها في المدارس، وتتضمّن أبحاثًا علينا القيام بها وقضاء ساعات طويلة في المكتبة والنقاشات، كلّ الأمور التي أحبّها، كانت تتعلّق بطريقة أو بأخرى في مادّة التاريخ.
وكان الأمر متناسبًا مع حال الجامعة الأميركيّة في تلك الآونة، إذ كانت تعج بالتيّارات الفكرية والسياسية القائمة على إيديولوجيات ذات مصادر تاريخية عديدة. وقد أثّر هذا الجوّ الجامعي في تكويني الفرديّ، لكن بشكل مختلف عن المتوقع. فرغم تربيتي في قب الياس في عائلة علمانيّة مع عمّي الذي كان ذا تأثير كبير عليّ، إلا أنني انجذبت في الجامعة الأميركيّة إلى التيّارات الدينيّة، إلى الجماعة الإسلاميّة بالتحديد، وقد تغيّرت طريقة تفكيري بالكامل، وارتديت الحِجاب. الآن أراه بأنه كان مجرد اهتمام سياسيّ من منطلق فكريّ ديني.
* كيف تفسّرين هذا التحوّل الكبير؟
كنتُ مهتمّة بالتيّارات السياسيّة والفكريّة، وقد فتح لي مجيئي إلى بيروت نافذة كبيرة تطلّ على عالم كبير ومختلف. وأظنّ أيضاً أنّ للأمر علاقة بفترة التسعينيات عينها، حين بدأ صعود التيّار الإسلاميّ. وكتفسير نفسيّ لهذا التحوّل، أظنّ أنّني كفتاة صغيرة قادمة من البقاع إلى هذه المدينة الكبيرة وواسعة الاختلاط، كان من الأسلم والأنسب لي أن أختار الخطّ المحافظ. إذ من المعروف أنّ الذي اعتاد العيش في بيئة ضيّقة، من الممكن أن يقوم بردّة فعل عكسيّة إذا ما انتقل إلى بيئة واسعة ومنفتحة كبيروت.
* إذن، كانت المؤثرات الفكرية مختلطة ما بين العلمانية اليسارية العروبية، وبين العروبية الإسلامية. كيف أمكنك التقريب بينها؟
رغم أن جدي كان رجل دين، إلا أنه سمح لوالدتي بالزواج من والدي اليساري العلماني. وقد كانت القضية الفلسطينية هي ما يجمع العائلة المتّحدة والمختلفة إيديولوجيًا. فكنت أنظر إلى القضية من خلال رؤيتين: رؤية والدي العلماني والمناضل وفقًا لإيديولوجيا وطنية وعروبية، ورؤية جدي الإمام المناضل من منطلق ديني وعروبي أيضًا. رغم أنّني تربيّت في بيت غير متديّن، لكنني أملك اهتمامًا فكريًا بهذه الشخصيّة المتديّنة. ولطالما كان لديّ الفضول لأتعرف أكثر على جدّي، الرجل الذي آوى في منزله، أيّام صراع جمال عبد الناصر مع الإخوان المسلمين، الشيوخ المصريين الهاربين من مصر. كان جدي يحبّ عبد الناصر كثيراً، من منطلق عروبي، ولكنه كان غاضبًا منه لأنّه يطرد جماعات متديّنة. الخلط بين الديني الإسلامي والقومي العروبي، لطالما حيّر كثيرين من مناضلي تلك الحقبات. وربما ما زال إلى الآن.
* كان قاضي محكمة بيروت يوسف النبهاني موضوع رسالتك في الماجستير. لِمَ اخترته؟
اخترت يوسف النبهاني لأنه كان ضدّ حركة محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا الإصلاحيّة، وكان يمتلك مفاهيمه الخاصّة. وهو رجل دين من فلسطين وقد عُيّن في محكمة الاستئناف في بيروت، وكان ذا فكر صوفي معادٍ للتيار الإصلاحي. كان التركيز ضمن دراستي على عصري النهضة والتنوير. وجاء النبهاني ليذكّرنا بأن هناك معاداة لهذا الفكر على أسس إسلاميّة، وكان يخاف على الفكر الصوفيّ من الممارسات الإسلاميّة، إذ كان التيّار الإصلاحيّ ضدّ الصوفيّين. وقد كان التصوّف طاغيًا كممارسات وطقوس شعبيّة في أواخر القرن التاسع عشر والعشرين.
كان في نظر القاضي النبهاني أنّ التيّار الإصلاحيّ يُخرّب الإسلام عن طريق دفع الناس إلى الاجتهاد، ما سيسمح لأوروبا بالتدخل، وهي العدو الذي باستطاعته تدمير الدولة العثمانية. كان خائفًا على مصير الدولة العثمانية من التيار الإصلاحي بسبب علاقاته المتينة مع نظام السلطان عبد الحميد. وبعد سنة 1908 خسر وظيفته، وتحوّلت أفكاره إلى سياسية فقط، كانت تتراءى له في الأحلام كما يدعي، ولم يعد يتمكن من نشر فكره كما في السابق.
كان هدفي في هذا البحث أن أسلّط الضوء على الفكر المعادي للفكر التنويري الإصلاحي، الموضوع الذي لم يُركَّز عليه من قبل. واهتممتُ كثيراً بآرائه المُحارِبة للتيار. والجميل في هذا الموضوع أن ما فكّر به النبهاني قد حصل فعلاً، إذ أدخل الإصلاح الأفكار الأوروبيّة أكثر إلى مجتمعاتنا، فأُصيبت العلاقات الاجتماعية والسلطوية بالخلل. وكان النبهاني رجل دين متحفظّ وتقليديّ للغاية. خاف على التراث الإسلامي وعلى الفكرة العثمانية. كلّ الأمور تقريباً التي تخوّف منها قد حدثت فعلاً. استعمل مناماته للتنبيه والإدلاء بآرائه، علمًا أنّ المنامات والأحلام لها أهميّة كبيرة كالفتاوى في العالم الإسلاميّ.
* كيف تبدو لك الأوضاع العربيّة الراهنة؟
هناك مشاكل كبيرة جداً، ولكن في الوقت عينه هناك نوع من الزخم والاندفاع إلى التغيير وللحياة رغم كلّ الصعوبات. وأنا، استنادًا إلى طبيعتي سأبقى متفائلة، أنظر إلى الجوانب الإيجابيّة على الدوام. تمرّ المنطقة بمرحلة صعبة للغاية، وعبر أنظمة فساد عميق، وإهمال للعلوم الإنسانيّة والاجتماعية. نحن بحاجة إلى مفكرين ينتشلون المنطقة من الفوضى، ولسنا بحاجة إلى رجال أعمال ومهندسين وأطبّاء.