تشردت القضية، وذهبت أحزابها وحراكاتها السياسية إلى جحيم الانقسام السياسي في الثورة السورية، فصائل حملت السلاح لتحافظ على ودها للسلطة، وأخرى أغلقت مكاتب عملها وتبنت خطاب المعارضة ثم غادرت. شخصيات سياسية وثقافية، منابر إعلامية، كتّاب ومثقفون، تحالفات معقدة أطاحت بالفلسطيني السوري إلى مصير مشابه للشعب المنتفض.
كل ذلك لم يثن الفلسطيني الطبيب والشاعر فايز حمدان من الانغماس في الوجع السوري، كان يدون اللحظات ليستعيد عنفواناً مؤجلاً حمله والده السبعيني منذ نكبة التهجير عام 1948، يروي في يومياته ("سماء ملوثة بالطائرات"، دار النايا 2014) عن حياة الفلسطيني السوري الذي عاش هناك وبكى، يصور فايز كل ما في جوبر خلال عامين من التظاهرات التي شرب فيها من مياه الغضب وهو يستمع لحكايات الخال أبو صلاح، عن فلسطين قبل النكبة، هذا الخال الرمز الفلسطيني الذي قد تعثر عليه في المخيمات الفلسطينية على أطراف دمشق.
تقوم في وجهه شهوات الصراخ حين يشاهد شباب الحي في جوبر وهم يلصقون على حيطان الشوارع بوسترات لذكرى يوم الأرض، الرسومات ذاتها كل عام نقرؤها (عائدون)! لم يكن يتوقع أحدنا أن تتحول تلك الجدران يوماً إلى ركام إلا بقصف العدو.
شارك فايز مع عشرات الفلسطينيين السوريين في الاحتجاجات السورية قبل انخراطها في العسكرة، كانوا أطباء وكتّاباً وسياسيين، فرغوا نضالهم الفلسطيني في الحراك السوري، منهم من نظم مسيرة المظاهرات وشعاراتها إلى جانب أهل جوبر، ومنهم من رفع السلاح لاحقاً في ألوية مقاتلة ضد كتائب عسكرية فلسطينية مع النظام. بقيت حكايات جوبر طي الكتمان، الشراكة في العمل الثوري جاءت من خلفية تنظيرية بحتة عاشها الفلسطينيون السوريون على مدى عقود من حكم نظام حزب البعث، فهذا الأخير زج بهم في صراعات على ولائه ليبقى النفوذ مقسماً إلى مناطق لإضعافهم والإمساك بهم كباقي الأحزاب في سورية.
كانت المدونات الإلكترونية والفيديوهات التي هرّبت من هذا الحي العاصف بالموت، تشير إلى صور ناصعة من النضال الشرس ضد القتل والظلم. كانوا يوثقون من خلف الشبابيك مشاهد الاعتقالات والقصف بالهاون والمروحيات، كما يوثق الناشطون في فلسطين المحتلة الممارسات الوحشية للجنود الصهاينة على العزل من أهلنا هناك.
كلما كنّا نجتمع، فايز وأنا، بعد نوبة التظاهرات طيلة عامي 2011 و2012 في أحد مقاهي دمشق، كان يفتح لي صفحات مخيلته عن كروم صفد، وروعة قريته (زُحُلق) التي لم يرها إلا بالصور، وتذكر حادثة سخرية مدرّسه أثناء الرحلة في منتصف السبعينات، حين رأى خارطة فلسطين بحجم كبير في المتحف الوطني وهتف لأصدقائه باكتشافه موقع قريته في صفد.
الأمر جعل المدرس ينهره قائلاً: "ليش طلعتوا منها؟ أنا قلت لكم تطلعوا من بيوتكم؟" هكذا يسترجع هذا الفلسطيني ألمه العابق في ثورة لم تكبر، بل ازدادت دماً وأشلاءً ودماراً، وبقيت هويته الشخصية مكتوب عليها (بطاقة مؤقتة للاجئين الفلسطينيين) ولكنه وقف مع السوري في صرخته، وتحمل عناء النزوح من بيت إلى بيت حتى غادر البلاد نهائياً حفاظاً على حياة أولاده. كان بإمكانه تملق السلطة أو الصمت ليبقى، لكنه آثر الكفاحَ مع ابن حارته الذي ربما توقع منه أن ينتفض ضد الاحتلال الإسرائيلي بعد أن تنتهي الثورة السورية.
لكن الوهم كان أنضج، وتجار السياسة جاؤوا على الوجع الفلسطيني عبر مئات الأشخاص المؤثرين في المجتمع السوري من أطباء وصحافيين وطلاب وأهل وأصدقاء بقيت قيود نفوسهم فلسطينية، لكنهم سوريون في نبضهم للشارع الجريح، دفع معظمهم في جوبر وزملكا وعربين ومخيم اليرموك أثماناً وصلت لخسارة حياتهم لأن الأرض واحدة هناك في سورية وعلى الخارطة الخشبية التي تحمل حلماً اسمه فلسطين الحرة، ثمة صورٌ لجرح واحد.
(كاتب سوري/ قبرص)
اقرأ أيضاً: بيت صغير في القدس