"العربي الجديد" يعرض لتأثير الازمة الليبية على العمالة التونسية واوضاعها الحالية في ليبيا، وتعرض لمدى استعداد الدولة التونيسة لاستقبال لاجئين محتملين من ليبيا في ظل اقامة مليون و900 الف ليبي في تونس منذ اندلاع أحداث ثورة 17 فبراير.
المسألة الليبية وأثرها على تونس لا يمكن النظر لها من زاوية "أمنية" فقط، فالوضع الليبي المتردّي منذ أشهر، مع توالي الاغتيالات وتغوّل الميليشيات المسلحة، وانتهاء بأزمة اختطاف الدبلوماسيين التونسيين، وفشل جميع الوساطات من أجل الإفراج عنهم، فرض على القادة السياسيين والعسكريين في تونس قراءة الوضع من منظور "مستقبلي" تحسّبا للأسوأ، وخصوصاً أنّ سيناريو الحرب الأهلية في ليبيا يشكّل كابوسا للتونسيين، ساسة وشعبا وهو ما يؤكده المحلل العسكري والاستراتيجي التونسي، فيصل الشريف، في تصريح لـ"العربي الجديد".
ويقول الشريف "هناك مؤشرات حقيقية على أن الأزمة الليبية ستتفاقم أكثر وهو ما ستكون له نتائج كارثية على تونس على الأقل من خلال موجات المهاجرين الليبيين وإمكانية تسلل عناصر إرهابية ومتطرّفة ضمنهم وهو ما يمثّل تحديا أمنيا كبيرا خاصة أن النجاحات الأمنية والعسكرية الأخيرة لم تقض نهائيا على الجيوب الارهابية في البلاد".
على مستوى القيادة السياسية، بات من الواضح أن الازمة الليبية الاخيرة، تشكّل هاجسا كبيرا للحكومة التونسية التي قررت تخفيض التمثيل الدبلوماسي في ليبيا الى حده الادنى، مع توفير عدد محدود من الموظفين في السفارة وقنصليات تونس في ليبيا لتوفير الخدمات للجالية التي تزيد أعدادها عن 120 ألف تونسي وهو ما أكده وزير الخارجية التونسية، في تصريح لوسائل الإعلام المحلية، مشيرا إلى أنّه تم الاتصال بمفوضية اللاجئين بجنيف تحسبا لتدفق أعداد من اللاجئين إلى تونس نتيجة الوضع الأمني المتدهور في ليبيا، مؤكدا وجود تفهم من المفوضية.
التحسب لموجة جديدة من المهاجرين الليبيين إلى تونس، لا يشكّل عامل الخوف الوحيد في تونس فالوضعية الحالية للعمال التونسيين في ليبيا والتخوف من تعرّضهم لأعمال انتقامية، مع تخفيض التمثيل الدبلوماسي في الجارة الشرقية، يمثّل لوحده كابوسا.
التونسيون يتعرضون للابتزاز
"العربي الجديد" حاول الاتصال برضا البوكادي، السفير التونسي في ليبيا، للاستفسار عن وضعية التونسيين المقيمين هناك، إلا أنه رفض الردّ عن استفساراتنا.
حولنا وجهتنا صوب رضا الحاجي، أحد التونسيين المقيمين هناك، الذي قال "نتعرض للابتزاز وعمليات السلب والسطو المسلح في أغلب المدن الليبية ومن يقاوم منا يتعرّض للضرب وهناك من معارفي من مزقوا له وجهه".
وتابع قائلا: "الأمر لا يتوقف عند الضرب والسلب فيكفي مثلا أن تتم إشاعة أن تونسيين متطرفين ينشطون في مدينة ليبية، حتى تبدأ المداهمات من طرف كتائب خاصة (حوالي 20 أو 30 مسلحاً) حيث تقوم الميليشيات بجمع التونسيين وتبدأ بتعذيبهم لانتزاع أية إفادات منهم وهو ما ينطبق على جنسيات أخرى خاصة المصريين وبما أن القضاء والأمن في ليبيا يعتبران عملة نادرة فإن أي تونسي يتورط مع الكتائب المسلحة لن يجد من يدافع عنه".
يضيف الحاجي: "في الأسبوع الماضي، تم ايقاف تونسيين أمام بوابة الدخول في شرطة الحديد والصلب بمصراطة وعندما سئلا عن سبب مجيئهما قالا إنهما في انتظار شخص ليبي للعمل معهم غير أن الشخص أنكر معرفته بهما ليتم ايقافهما صباحا بتهمة الإرهاب، ثم تتغير التهمة بعد العصر إلى عدم حيازتهما أوراق الاقامة (رغم أنه لم يمض يومان على دخولهما ليبيا) وفي الليل طلبوا منهما ألف دينار ليبي مقابل الإفراج عنهما، تدخلنا كتونسيين في اليوم التالي للافراج عنهما ليحدثني أحدهما عن وضعية تونسيين آخرين تعرضا للتعذيب لا لشيء إلا لأنهما قدما من قطر وفي حوزة احدهما هاتف نقال فيه صورة سلاح والثاني لأنه لم يختم جوازه على الحدود المصرية- الليبية".
اختتم رضا شهادته قائلا: "أنا كمغترب لا أريد سوى الأمن غير أن هذا يبدو أمنية صعبة المنال في ليبيا التي تفتقد لمكونات الدولة الامر الذي جعل العنف النظام السياسي الوحيد هنا".
شهادة الشاب رضا الحاجي تؤكدها شهادات اخرى لعدد من المغتربين التونسيين على الرغم من طمأنة وزارة الخارجية التونسية لعائلاتهم.
عادل الدباشي، المنسق السابق للثورة الليبية في تونس، ورئيس جمعية الصداقة التونسية - الليبية، قال لـ"العربي الجديد": "التهديد لا يشمل التونسيين فقط في ليبيا فحتى المواطن الليبي أصبح اليوم خائفا على حياته وعلى أفراد عائلته فالميليشيات المسلحة أصبحت الآمر الناهي في المدن الليبية والاغتيالات أصبحت خبزا يوميا وتتم على الشبهة فما ذنب شرطي ليبي يحرس أحد المصارف أن يذهب ضحية رشاشات لا تميّز سوى رائحة الدم".
وتابع قائلا: "قد لا يكون خليفة حفتر خيارا بالنسبة لليبيين ولكنه استغل الفراغ الذي تركته الحكومة والمؤتمر الوطني العام (البرلمان) خاصة مع ما يثارعن انتشار معسكرات تدريب وتجنيد لميليشيات ارهابية تستقطب اعدادا من الشباب في ظل غياب تام لمقومات الدولة حيث لا توجد دولة في ليبيا وما يحدث الآن مرشح للتحول إلى حرب أهلية".
أي سيناريوهات؟
الهاجس الثاني للسياسة التونسية هو التكلفة الاقتصادية التي ستضطر تونس لدفعها مجددا إذا ما تفاقمت الأزمة الليبية الحالية فتونس التي تأوي حوالي مليون و 900 ألف مهاجر ليبي (حسب إحصائيات وزارة الداخلية) لا تبدو مستعدة لاستقبال موجة جديدة من المهاجرين الليبيين كما ان شبح عودة العمال التونسيين يمثل هاجسا ثانيا في بلد يشهد ارتفاع نسبة البطالة إلى حدود 15.1 بالمائة.
أحد المسؤولين بوزارة التشغيل التونسية، رفض الكشف عن هويته، قال لـ"العربي الجديد": "صحيح أن أمن التونسيين المقيمين في الشقيقة ليبيا يهمنا بدرجة كبيرة ولكننا نأمل أن يتوصلوا هناك إلى تسوية عاجلة فتونس لن يكون باستطاعتها إدماج ما يقارب من 100 ألف عامل تونسي إذا ما قرروا العودة".
ويبدو أن إدماج العائدين- هذا إن قرروا العودة- سيكون مشكلة كبيرة أمام تبعات الأزمة الليبية على الاقتصاد التونسي.
فالخبير الاقتصادي محسن حسن يؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ الكارثة ستكون مضاعفة، حسب قوله مضيفا:" تفاقم الوضع في ليبيا، لا قدّر الله، له تبعات كارثية على الاقتصاد التونسي، أولا، ليبيا هي الشريك الاقتصادي رقم واحد لتونس في المنطقة العربية والافريقية و لدينا 1400 شركة تونسية تصدر منتجاتها للقطر الليبي الذي يعتبر امتدادا للسوق المحلية ويساهم بنسبة كبيرة في رقم معاملات هذه الشركات ومن نتائج الأزمة، ان شركاتنا ستخسر هذه الأسواق وبالتالي عائداتها المالية التي تضخ أموالا هامة في الاقتصاد التونسي".
تابع "ثانيا، لدينا مليون و900 ألف ليبي يتمتعون بخدمات صندوق الدعم التونسي على حساب التونسيين أنفسهم وأي تدفق للاجئين الليبيين سيرفع من الأعباء المالية لهذا الصندوق الأمر الذي سيعمق العجز على مستوى ميزانية الدولة وثالثا، تشديد القوات الامنية والعسكرية المراقبة على الحدود الجنوبية، سيخلق مشاكل اجتماعية في مدن الجنوب التي تقتات على التجارة الموازية بين تونس وليبيا، وهذا من شأنه أن يرفع درجة التوتر الاقتصادي والاجتماعي بهذه المناطق المحرومة من التنمية".
الخبير الاقتصادي اختتم حديثه قائلا: "تداعيات الأزمة الليبية ستكون وخيمة جدا وأعتقد أنّ المسألة ستتطوّر، في ظل ضبابية المشهد في ليبيا، إلى الأسوأ وهو ما يفترض بعث خلية أزمة لمتابعة الوضع الليبي وطرح جميع السيناريوهات حتى لا نؤخذ على حين غرّة".
هذه القراءات المتشائمة لتداعيات الأزمة الليبية تقابلها ايضا قراءات متفائلة، تعتقد في إمكانية الحيلولة دون الوصول إلى الحرب الأهلية.
فالعقيد مختار بن نصر، الناطق الرسمي السابق باسم وزارة الدفاع الوطني، وعضو مركز دراسات الأمن الشامل، خفف، في تصريحه لـ"العربي الجديد"، من تبعات الأزمة الليبية قائلا في هذا المستوى:" لا نعتقد ان العملية العسكرية التي يقودها خليفة حفتر ستتطور إلى حرب أهلية، لسبب وجيه وهو أن التركيبة القبلية للمجتمع الليبي وتوزع مراكز القوى على أكثر من طرف قبلي وسياسي وعسكري سيحولان دون تفاقم الاوضاع" .
وتابع قائلا: "المشكلة في ليبيا هي الجماعات المتطرفة وهذه الجماعات لن تتسلل الى التراب التونسي لأن تونس لا تمثل لها أرض معركة فمعركتها ستكون ضد قوات حفتر الذى يصر على استئصالها على حد قوله وهو ما يقلل من مخاطر تسرّب السلاح الى تونس هذا من ناحية، من ناحية أخرى، فإن قواتنا العسكرية منتشرة بشكل طيب في جميع النقاط الحدودية وهو ما يمنع نظريا تسلل الارهابيين والأسلحة إلى تونس".
القوات العسكرية توسع انتشارها
وفي مقابل تفاؤل تصريحات الناطق الرسمي السابق باسم وزارة الدفاع الوطني، لا بد من الإشارة الى ان إلقاء القبض على 8 ليبيين ينتمون لأنصار الشريعة، قالت السلطات التونسية إنهم كانوا يخططون لاستهداف منشآت في البلاد، ينسف اية قراءة متفائلة كما أن دخول أكثر من 7000 ليبي إلى تونس منذ بداية المواجهات، يطرح أكثر من فرضية حول إمكانية تسلل عناصر "نوعية" تنتمي الى الجماعات المتطرفة إلى التراب التونسي.
من جانبه، علق العميد توفيق الرحموني، الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الوطني، في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد" على الازمة قائلا: "إلى حد الآن لا تزال المعارك منحصرة في الجانب الشرقي أي في طرابلس وبنغازي، ومن الوارد جدا ان تتوسع إلى حدود المنطقة الغربية مع الحدود التونسية ولعلّ أهم التهديدات التي تواجهها تونس خاصة هي في تدفق أعداد كبيرة من الفارين من المعارك وامكانية اغتنام الفرصة من المتشددين والارهابيين للتسلل إلى تونس".
وتابع قائلا: "كلنا نتذكر انه في سنة 2011، شهد التراب التونسي معارك ضارية بين كتائب القذافي والثوار حتى إن بعض القذائف اصابت عددا من القرى الجنوبية التونسية وهذا السيناريو بالذات تحضرنا له من خلال نشر وحداتنا على طول المناطق الحدودية كما ان المنطقة العسكرية العازلة في الجنوب سهلت علينا عمليات المراقبة والسيطرة الميدانية وإذا تفاقم الوضع أكثر، فإننا مستعدون لتعزيز القوات الموجودة على الأرض بقوات إضافية لمواجهة أي تهديد يمس سلامة التراب الوطني".
التنسيق التونسي الجزائري
الجزائر، الجارة الغربية لتونس، لم تقف مكتوفة الايدي، إذ تشترك حدودها ايضا مع ليبيا فالأخبار الواردة من العاصمة الجزائر تشير الى اعتمادها لمخطط عسكري عاجل لمواجهة تدهور الأوضاع الأمنية في ليبيا، في اجتماع لقيادات عسكرية وأمنية رفيعة، عقد بالجزائر العاصمة مؤخرا.
ويشير عدد من المصادر الجزائرية، إلى أن قيادة الجيش الجزائري، "عززت وحداتها بالجنوب الشرقي بقوات إضافية، نقلت في الأيام الأخيرة، حيث نشرت 5 آلاف جندي ودركي وعنصر دعم لوجستي وطبي، على مستوى الحدود الجنوبية الشرقية المتاخمة لليبيا " كما تحدثت مصادر أخرى عن تقديم الجزائر لمساعدات عسكرية لتونس ومالي والنيجر.
في هذا السياق، قال العميد توفيق الرحموني لـ"العربي الجديد": "التنسيق بيننا والاخوة في الجزائر في حربنا المشتركة ضد الارهاب هو في أعلى مستوياته ولكن فيما يتعلق بالأزمة الليبية، طبيعة الارض تختلف فمن بن قردان إلى برج الخضراء، هناك 350 كلم من الحدود بين تونس وليبيا وبعد نقطة برج الخضراء (آخر نقطة حدودية تونسية) توجد 930 كلم من الحدود المشتركة بين ليبيا والجزائر صحيح أن طبيعة الميدان تحتم هذا التقارب، لكن مناطقنا الحدودية فيها قرى وتجمعات سكنية واكبر تهديد يواجهها هو تسلل العصابات الارهابية. بالمقابل الحدود الليبية الجزائرية تواجه تهديدا من نوع آخر وهو تجارة الاسلحة والمخدرات، لذلك يختلف التعامل مع المسالة بيننا وأشقائنا لكن بالمحصلة لنا السيطرة الكاملة على حدودنا ومستعدون جيدا لكل السيناريوهات التي قد تفرزها الأزمة الليبية".