كنا قد شارفنا على الانتهاء، حين انتبهت إلى أن يدي اليسرى هي التي كانت مرفوعة لأداء اليمين.
كنت ”مرفوعا“ تماما في تلك اللحظة وأنا أردد فيها أمام القاضي، داخل قاعة المحكمة التاريخية، ما كانت تقوله تلك الحسناء التي أذهلتني نظرات عيونها.
أديت اليمين على أن أضحّي من أجل بلدي الذي صار أميركا! وأن لا أقدم الولاء لأي بلد آخر.
لم أكن "مرفوعا" فرحا وانتشاء، وإنما من هول الصدمة، من عنف العبث الذي وجدتني فيه.
من عمق اللامعنى كنت أصنع تاريخا جديدا لهذا الكائن الذي أحياه.
حياة طارئة. وطن طارئ. وطنية طارئة. وجواز سفر طارئ.
أردد القسم بلغة طارئة في حياتي، ويدي اليسرى في الهواء. أفكر في أنصاف الأشياء. في أشباه الأشياء. في كل الذين مروا عبر هذه القاعة كي يخدعوا أنفسهم بالتحولات التي تأنقوا من أجلها ذات يوم.
تذكرت صورة آينشتاين وهو يؤدي اليمين وأنا أقول في إحدى جنبات قلبي "كل شيء نسبي، وحتى النسبي نسبي!. إن إدوار فاته هذا الغبن.. فقد جنّبه والده هذه المأساة، لذلك كان من الواجب عليّ أن أبحث عن جذور هذا الشتات الطارئ"..
شبه وطن. شبه عقل. شبه إحساس لا يميز بين الفرح والغضب والحزن والألم. شبه حلم كان، والآن يلبس قناع كابوس..
أخيانة أم دمار أم عودة أم حيرة أم اختيار؟
منفي يقسم أن يكون مواطنا، ويفقد وطنا مجانا ليستبدله بآخر..
أي معنى يمكنني أن أشرح به هذا العبث.
منفي يقسم، بماذا؟ كي لا يكون ما كان أبدا!
لم أكن أعتقد أن مثل هذا الإحساس يمكنه أن يحاصرني إلى هذه الدرجة.
كنا من أكثر من سبعين بلدا. وأهالي الناس يلتقطون لهم الصور من الشرفات المحيطة بالقاعة.
كنت وحيدا، أعزل، لا سند لي غير الوهم. غاب الماضي والحاضر هناك.. هذا إحساس إضافي بالموت في المنافي.
حدث أن تصبح أنت نقيضـ(ك) مجانا. أن تجعل الطارئ واقعك الأبدي. حقيقتك. سيرتك.
أقسم أن أدافع عن أميركا..
تذكر يوم كنت تقول "أميركا عدوة الشعوب" في ساحة ظهر المهراز بجامعة فاس، وأنت ترى جبال الأطلس بيضاء وتقرأ "مساكي" دوستويفسكي، و"جنات" بودلير، و"مركب" رامبو...
تذكر يوم كنت تنادي بالشيوعية والحلم الماركسي وتغيير النظام (من غير من اليوم.. هو الذي غيرك يا صاحبي!)
تذكر يوم كنت تقول "من أجلك يا وطني المغرب سأفديك روحي".
تذكر عشقك للحارات والجميلات والقصص ورائحة الجدّات وقلبك يرق لحنانهن وسذاجتهن.
هل يكفيك عطر البلو شانيل الذي استبدلت به رائحة الأمهات كي تنسى!؟
أقسم أن أدافع عن أميركا!
ضد من؟
ضدي، أم ضد ضد ضدي!؟
أحمل جواز سفر مُرهقا يشظيني في الخرائط الضائعة. سيتعبني شرطي الحدود في وطني القديم بسؤاله "ما سبب الزيارة؟ لا تنس أن تملأ الخانة الموضوعة لذلك"، ثم سيقول لي، وهو يسخر مني حاقدا متسلطا، عن بطاقتي الوطنية المغربية ليتأكد من براءتي من أي متابعة.
حين كنا أطفالا، وشبانا يافعين، كنا نحلم بجواز سفر أجنبي.. لكنك حين تضعه في جيبك بعد أن تتلفك المآسي، وبعد أن تعبر الحدود تدرك عميقا كم أنت مقصي في داخلك.. وكم أنت غريب عن نفسك أولا.. وأنك لست كما تريد، ليس لأنك ضيعت بلدا أو وطنا أو حياة، وإنما لأنك أفنيت عمرا تبحث عن الأوهام، وكنت تعرفها، لكنك في اللحظة الأخيرة اعتقدت أن أوهامك حقائق حياة يا صاحبي.
تذكر تيهك ومشاعر الألم حين تدخل المدن.. من برلنتون وطورونطو إلى واشنطن وبالتمور ونيويورك ومونتريال. تذكر عزلتك داخل البلدات الصغيرة حين تتوقف كي تشرب قهوتك وتستريح قليلا.
تقضي اللحظات كلها تبحث عن وجوه الشبه التي خزنتها ذكراك... ثم تنتهي بك الحيرة إلى التقاط الصور حتى تتعب أو يطحنك الوجع. ولا بلسم للمأساة.
(أستاذ جامعي مغربي في بوسطن)
كنت ”مرفوعا“ تماما في تلك اللحظة وأنا أردد فيها أمام القاضي، داخل قاعة المحكمة التاريخية، ما كانت تقوله تلك الحسناء التي أذهلتني نظرات عيونها.
أديت اليمين على أن أضحّي من أجل بلدي الذي صار أميركا! وأن لا أقدم الولاء لأي بلد آخر.
لم أكن "مرفوعا" فرحا وانتشاء، وإنما من هول الصدمة، من عنف العبث الذي وجدتني فيه.
من عمق اللامعنى كنت أصنع تاريخا جديدا لهذا الكائن الذي أحياه.
حياة طارئة. وطن طارئ. وطنية طارئة. وجواز سفر طارئ.
أردد القسم بلغة طارئة في حياتي، ويدي اليسرى في الهواء. أفكر في أنصاف الأشياء. في أشباه الأشياء. في كل الذين مروا عبر هذه القاعة كي يخدعوا أنفسهم بالتحولات التي تأنقوا من أجلها ذات يوم.
تذكرت صورة آينشتاين وهو يؤدي اليمين وأنا أقول في إحدى جنبات قلبي "كل شيء نسبي، وحتى النسبي نسبي!. إن إدوار فاته هذا الغبن.. فقد جنّبه والده هذه المأساة، لذلك كان من الواجب عليّ أن أبحث عن جذور هذا الشتات الطارئ"..
شبه وطن. شبه عقل. شبه إحساس لا يميز بين الفرح والغضب والحزن والألم. شبه حلم كان، والآن يلبس قناع كابوس..
أخيانة أم دمار أم عودة أم حيرة أم اختيار؟
منفي يقسم أن يكون مواطنا، ويفقد وطنا مجانا ليستبدله بآخر..
أي معنى يمكنني أن أشرح به هذا العبث.
منفي يقسم، بماذا؟ كي لا يكون ما كان أبدا!
لم أكن أعتقد أن مثل هذا الإحساس يمكنه أن يحاصرني إلى هذه الدرجة.
كنا من أكثر من سبعين بلدا. وأهالي الناس يلتقطون لهم الصور من الشرفات المحيطة بالقاعة.
كنت وحيدا، أعزل، لا سند لي غير الوهم. غاب الماضي والحاضر هناك.. هذا إحساس إضافي بالموت في المنافي.
حدث أن تصبح أنت نقيضـ(ك) مجانا. أن تجعل الطارئ واقعك الأبدي. حقيقتك. سيرتك.
أقسم أن أدافع عن أميركا..
تذكر يوم كنت تقول "أميركا عدوة الشعوب" في ساحة ظهر المهراز بجامعة فاس، وأنت ترى جبال الأطلس بيضاء وتقرأ "مساكي" دوستويفسكي، و"جنات" بودلير، و"مركب" رامبو...
تذكر يوم كنت تنادي بالشيوعية والحلم الماركسي وتغيير النظام (من غير من اليوم.. هو الذي غيرك يا صاحبي!)
تذكر يوم كنت تقول "من أجلك يا وطني المغرب سأفديك روحي".
تذكر عشقك للحارات والجميلات والقصص ورائحة الجدّات وقلبك يرق لحنانهن وسذاجتهن.
هل يكفيك عطر البلو شانيل الذي استبدلت به رائحة الأمهات كي تنسى!؟
أقسم أن أدافع عن أميركا!
ضد من؟
ضدي، أم ضد ضد ضدي!؟
أحمل جواز سفر مُرهقا يشظيني في الخرائط الضائعة. سيتعبني شرطي الحدود في وطني القديم بسؤاله "ما سبب الزيارة؟ لا تنس أن تملأ الخانة الموضوعة لذلك"، ثم سيقول لي، وهو يسخر مني حاقدا متسلطا، عن بطاقتي الوطنية المغربية ليتأكد من براءتي من أي متابعة.
حين كنا أطفالا، وشبانا يافعين، كنا نحلم بجواز سفر أجنبي.. لكنك حين تضعه في جيبك بعد أن تتلفك المآسي، وبعد أن تعبر الحدود تدرك عميقا كم أنت مقصي في داخلك.. وكم أنت غريب عن نفسك أولا.. وأنك لست كما تريد، ليس لأنك ضيعت بلدا أو وطنا أو حياة، وإنما لأنك أفنيت عمرا تبحث عن الأوهام، وكنت تعرفها، لكنك في اللحظة الأخيرة اعتقدت أن أوهامك حقائق حياة يا صاحبي.
تذكر تيهك ومشاعر الألم حين تدخل المدن.. من برلنتون وطورونطو إلى واشنطن وبالتمور ونيويورك ومونتريال. تذكر عزلتك داخل البلدات الصغيرة حين تتوقف كي تشرب قهوتك وتستريح قليلا.
تقضي اللحظات كلها تبحث عن وجوه الشبه التي خزنتها ذكراك... ثم تنتهي بك الحيرة إلى التقاط الصور حتى تتعب أو يطحنك الوجع. ولا بلسم للمأساة.
(أستاذ جامعي مغربي في بوسطن)