قال لي: "أنا اسمي محمد، مسلم. وقد تعلمت التعاليم الإسلامية وأنا فخور بها. لكنني أميركي الولادة. من أب بنغلاديشي وأم أميركية، من البيض. قدمت من ولاية ميسوري بحثا عن العمل هنا. لاشيء هناك. وأكره نيويورك حيث لا مأوى. فقد عشت التشرد فيها إلى أن طردني البرد من شوارعها في شهر أكتوبر".
قلت له: "لكنْ في إنجليزيتك لحن يا محمد!".
قال لي: "حين بلغت من العمر عاما عاد بنا والدي إلى بلده الأصلي، ولما لم تتحمل أمي العيش هناك، عادت إلي أميركا، أما أنا وأخي فقد بقينا هناك مع جدي. ثم لحق بها والدي إلى أميركا وطلقها ليتزوج ويبدأ حياة جديدة. لم أدرس، انقطعت عن الدراسة في المرحلة الإعدادية.. أنا الآن أشتغل في هذا المقهى، ولم أجد بعد عملا يضمن لي عيشا كريما.. ساعدني أرجوك، فأنا مسلم بْرادرْ...".
لم أرشف من كأس قهوتي. فمن سوء حظي أنه لم يكن هناك زبناء. أعطيته ما كتب الله وخرجت.
كانت المرة الأولى التي انفجر فيها ذلك الشاب الثلاثيني ذو الملامح الخلاسية. لكنه وسيم وحزنه وملامحه وبراءة طفل في رجل مؤلمة.. إن للخلاسيين عيونا وملامح مؤلمة للغاية!
هي ذي المآسي الإنسانية.. مؤلمة، وتتمنى لو لم ”تعط وقتا“ لأحد كي يشتت أوهامك بمستقبل بشري زاهر..!
ما أن أتقن نسجَ وهم من إبر الخيال حتى تخرقه أول عبارة من مآسي المنفيين في الحياة..
أميركا.. بعد هذا الصباح، مأساة.
أميركا.. بلد الخوف والضباب والضياع والتيه.
أميركا.. وطن من لا وطن له.
أميركا.. حين تستيقظ صباحا وتمر بسيارتك كي تأخذ قهوتك، عبر النافذة، تُفهمك أن الداخل غارق في المعاناة فلا تقربه حتى تكون على استعداد لمشاهدة الألم.
من اخترع، أيام الجامعة، شعار ”أميركا الطاعون“!
في أميركا منفيون طاعنون في الألم!
أميركا.. مقبرة حيث يمكنك أن تقرأ شاهدة قبرك على عجل، وأنت واهم أن الحياة حياة، والموت ”موت“، وأنك ”أنت“ الذي لم تكن أبدا ”أنت“..
أميركا فيَّ أم أنا الذي فيها..
قلت يوما ”أميركا وهم يصعب التخلص منه، لا هي حقيقة تصدقها ولا هي كذبة تفندها".
..........
شربنا قهوة الصباح أنا ومِيرْيْنْ.. كانت كعادتها تضحك وتنتقد الوضع الأميركي. تحدثني عن التحولات التي شهدتها منطقة بوسطن خلال العشر سنوات الأخيرة. ثم نظرت إلي بقليل من الأسى، وقالت: "البارحة دفنت والدتي التي توفيت عن عمر يناهز خمسة وثمانين عاما.. ما أقسى أن تدفن قريبا في يوم ماطر!". ثم استدركت قائلة "لقد دفناها جوار أخي/ ابنها.. فلا شك أنهما سيؤنسان بعضهما البعض".
كانت تتحدث وأنا غائب عن الواقع تماما.
صرت أحيا بين بحرين، ونهرين، وقولين، ولغتين، وحياتين... ذاكرة منتهية قديمة ترقد في اطمئنان، وذاكرة أغذيها بمحن اليومي الزائف.
الواقع أن كل شيء زائف.. والأخطر أن الهناك لم يشكل لي، أبدا، بديلا..
أحيا بين نغمتين، وموسيقتين وخيالين!
صعب أن تحمل خيالين معك في جسد لا يمكنه أن يتخيل إلا مرة واحدة!
إنه الوهم. بل الشيء ونقيضه. الواقع واللاواقع. الحلم واللاحلم.
لكن ماذا عن الموت!؟
هل يمكنك أن تموت بين موتين. بين قبرين. بين جغرافيتين. بين احتضارين لا يتشابهان!
ميرين تضحك وهي تنعى وفاة والدتها. وأنا أكتفي بالقول I‘m sorry، ونحن نشرب القهوة وقوفا عند الزاوية اليسرى من بانيرا بْرِيد.
تعلمت أن الموت محزن. ضربة تأمل تزج بك في البواطن ولا تخرج منها إلا محملا بتجربة جديدة في الموت.
قالت لي بلهجة جادة حين انصرفنا من المقهى: "اسمع يا صديقي، ينبغي أن تحب الحياة مدى الحياة!".
قلت وأنا أرتعش من شدة البرد:"متى تعلمت حب الحياة في الماضي كي أبقى على هذا الحب حتى النهاية؟".
كانت حكمتي، قبل عامين، أن أعرف كيف أموت، والآن علي أن أبحث في حكمة كيف أحب الحياة إلى الأبد.
(كاتب وأستاذ جامعي مغربي في بوسطن)
قلت له: "لكنْ في إنجليزيتك لحن يا محمد!".
قال لي: "حين بلغت من العمر عاما عاد بنا والدي إلى بلده الأصلي، ولما لم تتحمل أمي العيش هناك، عادت إلي أميركا، أما أنا وأخي فقد بقينا هناك مع جدي. ثم لحق بها والدي إلى أميركا وطلقها ليتزوج ويبدأ حياة جديدة. لم أدرس، انقطعت عن الدراسة في المرحلة الإعدادية.. أنا الآن أشتغل في هذا المقهى، ولم أجد بعد عملا يضمن لي عيشا كريما.. ساعدني أرجوك، فأنا مسلم بْرادرْ...".
لم أرشف من كأس قهوتي. فمن سوء حظي أنه لم يكن هناك زبناء. أعطيته ما كتب الله وخرجت.
كانت المرة الأولى التي انفجر فيها ذلك الشاب الثلاثيني ذو الملامح الخلاسية. لكنه وسيم وحزنه وملامحه وبراءة طفل في رجل مؤلمة.. إن للخلاسيين عيونا وملامح مؤلمة للغاية!
هي ذي المآسي الإنسانية.. مؤلمة، وتتمنى لو لم ”تعط وقتا“ لأحد كي يشتت أوهامك بمستقبل بشري زاهر..!
ما أن أتقن نسجَ وهم من إبر الخيال حتى تخرقه أول عبارة من مآسي المنفيين في الحياة..
أميركا.. بعد هذا الصباح، مأساة.
أميركا.. بلد الخوف والضباب والضياع والتيه.
أميركا.. وطن من لا وطن له.
أميركا.. حين تستيقظ صباحا وتمر بسيارتك كي تأخذ قهوتك، عبر النافذة، تُفهمك أن الداخل غارق في المعاناة فلا تقربه حتى تكون على استعداد لمشاهدة الألم.
من اخترع، أيام الجامعة، شعار ”أميركا الطاعون“!
في أميركا منفيون طاعنون في الألم!
أميركا.. مقبرة حيث يمكنك أن تقرأ شاهدة قبرك على عجل، وأنت واهم أن الحياة حياة، والموت ”موت“، وأنك ”أنت“ الذي لم تكن أبدا ”أنت“..
أميركا فيَّ أم أنا الذي فيها..
قلت يوما ”أميركا وهم يصعب التخلص منه، لا هي حقيقة تصدقها ولا هي كذبة تفندها".
..........
شربنا قهوة الصباح أنا ومِيرْيْنْ.. كانت كعادتها تضحك وتنتقد الوضع الأميركي. تحدثني عن التحولات التي شهدتها منطقة بوسطن خلال العشر سنوات الأخيرة. ثم نظرت إلي بقليل من الأسى، وقالت: "البارحة دفنت والدتي التي توفيت عن عمر يناهز خمسة وثمانين عاما.. ما أقسى أن تدفن قريبا في يوم ماطر!". ثم استدركت قائلة "لقد دفناها جوار أخي/ ابنها.. فلا شك أنهما سيؤنسان بعضهما البعض".
كانت تتحدث وأنا غائب عن الواقع تماما.
صرت أحيا بين بحرين، ونهرين، وقولين، ولغتين، وحياتين... ذاكرة منتهية قديمة ترقد في اطمئنان، وذاكرة أغذيها بمحن اليومي الزائف.
الواقع أن كل شيء زائف.. والأخطر أن الهناك لم يشكل لي، أبدا، بديلا..
أحيا بين نغمتين، وموسيقتين وخيالين!
صعب أن تحمل خيالين معك في جسد لا يمكنه أن يتخيل إلا مرة واحدة!
إنه الوهم. بل الشيء ونقيضه. الواقع واللاواقع. الحلم واللاحلم.
لكن ماذا عن الموت!؟
هل يمكنك أن تموت بين موتين. بين قبرين. بين جغرافيتين. بين احتضارين لا يتشابهان!
ميرين تضحك وهي تنعى وفاة والدتها. وأنا أكتفي بالقول I‘m sorry، ونحن نشرب القهوة وقوفا عند الزاوية اليسرى من بانيرا بْرِيد.
تعلمت أن الموت محزن. ضربة تأمل تزج بك في البواطن ولا تخرج منها إلا محملا بتجربة جديدة في الموت.
قالت لي بلهجة جادة حين انصرفنا من المقهى: "اسمع يا صديقي، ينبغي أن تحب الحياة مدى الحياة!".
قلت وأنا أرتعش من شدة البرد:"متى تعلمت حب الحياة في الماضي كي أبقى على هذا الحب حتى النهاية؟".
كانت حكمتي، قبل عامين، أن أعرف كيف أموت، والآن علي أن أبحث في حكمة كيف أحب الحياة إلى الأبد.
(كاتب وأستاذ جامعي مغربي في بوسطن)