لا حديث في هذا الصيف الفرنسي "الاستثنائيّ" إلا عن الإسلام والمسلمين. قلّما يتحدث سياسيّ أو إعلامي فرنسي أو مُقيم في فرنسا دون أن يكون الإسلامُ وشجونه موضوعَهُ الرئيس.
وكما حدث في الماضي، ويحدث عادةً حين يتعلق الأمر بالإسلام؛ فالموضوعية والحوار الهادئ هما الخاسران الكبيران في مثل هذه المناقشات، ولربّما لم يكن تهديد مانويل فالس، قبل يومين، لمسلمي فرنسا من "احتمال عدم ضمانة حريّة أمان عبادتهم" مجرّد زلة لسان، ولربّما، أيضاً، لم يكن ازدياد الاعتداءات التي تَطاولُ مسلمي فرنسا وهْماً يُشهره المروّجون من الحركات المعادية للعنصرية.
ويمكن القول، كما يحلو لليمين الفرنسي، إنّ الكلام العنصري بات أكثر تحرّراً في مثل هذه الأوقات، ولم يعد ثمة من رادع إزاءه، أقلّه على المستوى القانوني، ولعلّ مثال الكاتب اليميني، روبرت ريديكير، والذي تقدمه وسائل الإعلام الفرنسية على أنّه "فيلسوف"، يمثّل دليلاً ظاهراً على ما سبق.
وبعد صمت ثقيل، أو تقاعد مؤقت نسيه خلاله الكثيرون؛ عاد مُدرّس الفلسفة الفرنسي، ريديكير، إلى الكلام مجدّداً، بعد أن نشر في صحيفة لوفيغارو عام 2006 مقالاً بعنوان "في مواجهة التهديدات الإسلامويّة، ما الذي يجب أن يفعله العالَم الحرّ؟"، وأثار به جدلاً كبيراً لتحامله الشديد على الإسلام، إلى درجة اعتبار القرآنَ "كتابَ عُنفٍ غير مسبوق"، قبل أن يختم مقاله بخلاصة مفادها بأنّ: "الكراهية والعنف يسكنان الكِتاب الذي تربّى عليه كلُّ مسلم".
ويستعيد اليوم ريديكير مجدّداً الخطاب المناهض لـ"الإسلامويّة" (وهو المصطلح الذي يُراد به التعبير عن الإسلام بوصفه أيديولوجيا صداميّة ذات منبع عقائدي) بعد نشره مقالاً، اليوم الثلاثاء، في صحيفة لوفيغارو ذاتِها بعنوان: "الإرهاب الإسلامويّ يتفتّح بفضل وعي فرنسا الشقيّ". مرّةً أخرى؛ يعود "الفيلسوف" الفرنسي إلى طرح أفكاره السّابقة بصفة منقّحة نسبيّاً، غير أنّ جوهرها لم يتغيّر.
وفي مقاله الجديد؛ يعتقد ريديكير أنّ ما يريده "الإسلامويّون" هو أن يرى الفرنسيّون بلدهم "وقد أصبحت تشبه سورية والعراق، حيث المسيحيون ضحايا شبه إبادة". كما يرى أن أفظع ما في هذا الأمر هو "محاولة الأيديولوحيا الإسلاموية إثبات أن المسلمين مضّطَهَدُون في العالم بأسره، وأنهم، تحديداً، الضحايا"، غير أنّ الواقع الجيو-سياسي مختلف، كما يقول، مبدياً قلقَهُ لأنّ "الإنكار يتواصل، إذ في كل مرة يكون فيها الأمر ممكناً، تَعمد الحكومة الفرنسية، وكذلك العديد من وسائل الإعلام، إلى تبرئة الإسلامويّين من هذه الاعتداءات، مختزلين الإرهابيين في تصنيفات ومقولات نفسانية، من قبيل نعتهم بالـ"مختلين نفسيّاً".
ويطالب مدرّس الفلسفة الفرنسيّ باستقالة وزير الداخلية الفرنسي، برنار كازنوف، بسبب حصيلة الإرهاب المرتفعة، ويعيبُ على رئيس الحكومة، مانويل فالس، "استخدامَه لخطاب حربٍ من دون أن يخوض حرباً"، ويقدّم على ذلك مثالاً إذ يكتب: "إن كنّا في حالة حرب، فإن الآلاف من الشباب الفرنسيين الذين ينضمون إلى صفوف الدولة الإسلامية في سورية والعراق، والذين يستخدمون السلاح ضد وطنهم، والذين يَقتُلون مواطنين هم خَوَنةٌ. إلا أن الحكومة تضعهم في "مراكز نزع التطرف"، والنتيجة التي تؤلم ريديكير هي أن "الحكومة والأيديولوجيا المهيمنة في وسائل الإعلام، لا ترى في الفرنسيين الذين توجّهوا إلى سورية والعراق خَونة بل شبابا سقطوا في التطرّف".
ولا يُبدي كاتب المقال أي تعاطف مع الرئيس فرانسوا هولاند، بل، على العكس، يرى فيه "رجل السياسة الأكثر تعرّضا للاحتقار في الجمهورية الخامسة. ولا يمكن العثور على أيّ فرنسي ينصت إليه بشكل جدّي، فهو يعلن عن انتهاء حالة الطوارئ يوم 14 يوليو/ تموز في الساعة 12 ظهراً، ثم يعلن في الحادية عشرة ليلاً تمديدها بعد اعتداء نيس".
وإذا كان ريديكير قد استند في مقاله السابق، قبل عشر سنوات، إلى استشهادات من مقال للمستشرق الراحل، مكسيم رودنسون، فهو في هذه المرة يستشهد بكاتبَيْن عربيّين، غالباً ما تثير كتبهما جدلاً كبيراً في فرنسا والعالم العربي، وهما الأديب الجزائري، بوعلام صنصل، والذي يصفه بـ"الصديق"، ويشاطره الفكرة التي تقول بأن "الحاجة الماسّة لمحاربة الإرهاب الإسلاموي تصطدم بجدار أيديولوجي، وهو رفض اعتبار الإسلامويّة إحدى صيغ الإسلام"، إضافة إلى الكاتب التونسي الراحل، عبد الوهاب المؤدب، ويستعير منه مصطلح "المرض"، ويقصد به "الإسلامويّة" التي تنخر الإسلام، ويجب "مساعدة المسلمين على الشفاء منها".
وبعد هذا الطرح؛ ينهي ريديكير مقاله بالتأسف على حال المدرسة الفرنسية (التي يكرّس لها كتابه القادم، وهو بعنوان: "المدرسة الشَّبَح")، معتبراً أنّها قد "تعرّضت للتدمير"، ويلومها لأنها "تُدرس أطفال الهجرة بأنّنا، نحن الفرنسيين، صليبيّون وتُجّارُ رقيق ومحتلّون ومذنبون ونستحق الاحتقار.
وتحت غطاء احترام الاختلاف يهيمن النفور من كل ما هو فرنسي وأوروبي وغربي"، والنتيجة، كما يتنبّأ بها ريديكير، هي أن "المدْرسة الفرنسية، عبر تبرير الرفض لفرنسا ولثقافتها، تخلقُ وتخصب الأرضية الأيديولوجية التي يمكن للإسلاموية أن تتطوّرَ فيها وتَزدهِرَ من دون عقبات".