وفي برلين، طالبت صحيفة "تاغس شبيغل" وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، بعدم الانجرار وراء سياسات نظيره البريطاني بوريس جونسون "المتذبذبة"، إنما العمل على استعادة ثقة روسيا، وإلا "فان أوروبا مهددة بالانقسام". ما دفع ماس ليعلن لاحقاً، في حديث صحافي لصحيفة "بيلد"، عن استعداده لمواصلة الحوار مع روسيا "لأننا بحاجة إليها كشريك من أجل المساعدة في حلّ الصراعات الإقليمية.. رغم ضياع الكثير من الثقة على مدى الأعوام الماضية".
ويطرح السؤال هنا عما إذا كنا سنشهد بداية عصر جليدي جديد أطول، أو أننا أمام مناوشة أو استفزاز سيصمد بضعة أسابيع، من دون أن تخلف الأزمة الدولية الحادة المستجدة المزيد من المحن.
وتسود حالٌ من الترقب لما إذا كانت موسكو ستفرض بدورها أجندتها على الغرب، فيما يدور حديث آخر، حول أن تطور الوضع، وارتفاع نسبة عمليات الطرد، لا تقلل من إمكانية إيجاد حلٍّ دبلوماسي للأزمة.
أمام هذا الوضع، يرى مراقبون أن عملية الطرد الأوروبية للدبلوماسيين الروس "خطأ استراتيجي"، والسبب أن روسيا استطاعت أن تثقل كاهل الجانب الأوروبي إلى حدّ الانقسام في المواقف ( 16 من 28 دولة التزمت)، وأن تثير النزاع حول كيفية تعامل الأوروبيين مع موسكو، والانقسام، بالنسبة لهؤلاء الخبراء، يعني ضعفا، الأمر الذي سيدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مستقبلاً لشقّ الجبهة الأوروبية، من خلال تقديم إغراءات اقتصادية لدول مثل النمسا واليونان وبلغاريا ومالطا والبرتغال التي رفضت طرد دبلوماسيين. وكلما كانت هذه العروض جذابة أكثر، سيكون من الصعب على دولٍ رفضها، ولقناعةٍ لديها بعدم وجود أدلة دامغة ضد روسيا.
وأمام تداعيات الأزمة، يرى خبراء أوروبيون أن الاستجابة المتضافرة للغرب ليست قرار محكمة، وليست حكماً نهائياً، إنما إجماع لمعظم الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، لم يكن إلا بفعل التحديات الكثيرة، وبينها أن الأميركيين مستاؤون من التدخل الروسي في حملتهم الانتخابية، والبريطانيين بشأن الهجوم بغاز الأعصاب، والألمان عبر هجمات القرصنة على البرلمان وخوادم الحكومة.
توازياً، تمكنت بريطانيا، التي تتصارع مع الاتحاد الأوروبي بشأن "بريكست"، من كسب أوسع حملة تضامن معها، وهذا بمثابة نجاح لرئيسة وزرائها تيريزا ماي، بعدما نجحت في شدّ الموقف الأوروبي بأغلبيته صوب بلادها، وفي تثبيت أن روسيا هي المسؤولة على الأرجح عن الهجوم، فأكدوا تضامنهم الكامل مع المملكة المتحدة، ووافقوا على تنسيق أعمالهم.
وهنا يرى خبراء في العلاقات الأوروبية أن بريطانيا، المعنية المباشرة في تسميم العميل، لم تتخذ أي إجراءٍ مؤلم حقاً، وبالتالي كان عليها - وفي حال رغبتها في إلحاق الأذى بنخبة روسيا وأرستقراطيتها - أن تتصرف بامتيازاتها، ومنها مثلاً التعرض لحرية سفرهم إلى أوروبا، ولعقاراتهم في لندن، وملياراتهم في المصارف الأوروبية، أي أن تتخذ لندن خطوات كانت لتكون مؤلمة لموسكو وبوتين. وليس سراً، أنه لسنوات، جرى غسل كميات كبيرة من الأموال الروسية واستثمارها في العقارات، حيث تعتبر لندن ملاذاً ضريبياً آمناً، لكن هذا الأمر يعتبر بالغ السخونة. ويمكن الاستنتاج بأن ما حصل "نفاق"، بحسب الخبراء، وبالتالي حان الوقت لكي تكون الحكومات في لندن وبرلين وباريس وواشنطن، وفي جميع العواصم الأخرى، "أكثر شفافية" .
هذا ما استدعى من الخبراء التأكيد على ضرورة أن تستمر أوروبا في التعامل مع روسيا، وانتظار ما ستقوله منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي، بشأن هجوم غاز الأعصاب. وحتى ذلك الحين، ينصح الخبراء بعدم التصعيد أكثر، علماً أن "تاغس شبيغل" ذكرت أن عدد العلماء الروس الذين ينشطون في ألمانيا لا يمكن تقديره، وأن هناك تمويها على وجود العديد منهم عبر شركات تجارية.
إلى ذلك، يعتبر محللون أنه يجب التفكير أكثر حول الدافع والأدلة، وإذا ما كانت روسيا تعتقد أنها بريئة في قضية سكريبال، فعليها تقديم نسخة مدعمة بالأدلة المتوفرة لديها، وألا تقدم تفسيرات متضاربة لا تؤدي إلا الى تغذية الشكوك، علماً أن السفير الروسي لدى برلين سيرغي نيتشاييف، وفي حديث لوكالة الأنباء الألمانية أخيراً، ردّ بشكل حاد على بيان قمة الاتحاد الأوروبي وإعلان دولها تضامنها مع بريطانيا، ومحذراً ألمانيا من عواقب تلك الخطوة.
وفي هذا الإطار، قال نيتشاييف: نأمل بشدة ألا يتصرف شركاؤنا الألمان وفقاً لأسس غريبة، لأن ذلك ليس من مصلحتنا جميعاً، العلاقات الألمانية الروسية ذات أهمية استراتيجية، لافتاً إلى الإجراءات التي أقدمت عليها المملكة المتحدة مع المبررات الأميركية على العراق في العام 2003 والعدوان الذي تمّ التحضير له عندما تم إنشاء أسس لغزو عسكري من خلال الأكاذيب والتزوير، وبعدما قدمت أميركا أدلة مزعومة على أن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل لم يتم العثور في ما بعد على أي منها.
وفي هذا الاطار، يرى الخبراء أنه لا يمكن الحديث عن حرب باردة، لأنه لا يوجد طرفان قويان بالقدر ذاته، إنما جانب واحد فقط وضعه مستقر إلى حد معقول، أي موسكو، المستمرة في تقديم مصالحها الفردية من جانب واحد، ولم تفعل أي شيء منذ سنوات لتدفئة العلاقات مع جيرانها، فيما أوروبا تبدو مترددة وغير حاسمة، وتحاول تجنب الحرب الباردة.
لكن بالنسبة لهؤلاء عدم وجود استراتيجية ليست هي الحل أيضاً، فيما يرجح أن تكون هناك حرب باردة في العلاقة بين روسيا وأميركا، إذ ليس لهذين البلدان ليس لديهما الكثير من مساحات التلاقي. وينبغي على الأوروبيين أن يكونوا متضامنين، وألا يفتحوا أبوابهم، وتقديم تنازلاتهم للروس، وهو امرٌ ينطبق بشكل خاص على مالطا وقبرص اللتين تستفيدان بقوة من الإستثمارات الروسية، وكذلك النمسا، التي وقفت على الحياد.