ففي غضون أيام قليلة، تراوح خطاب الإدارة الأميركية بين التحذير وهزّ العصا والتراجع، في التعاطي مع العمليات العسكرية التركية في شمال سورية. مسلسل من التذبذب بدأ "بوعد" ترامب خلال مكالمة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، بوقف الدعم العسكري للأكراد، وانتقل إلى إعلان وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، عن إعداد قوة لحماية الحدود، ثم تصعّد إلى تحذير ترامب من التمادي التركي بالعمل العسكري؛ لينتهي بتطمين مستشار الأمن القومي، هربرت مكماستر، لأنقرة بعدم تسليح الأكراد، الذي كان قد سبقه تأكيد من جانب البنتاغون على الاستمرار في الدعم. كل هذه المواقف جاءت بصيغة ضبابية مفتوحة على التأويل والتعديل، وبما يشير إلى غياب الإجماع في الإدارة في هذا المجال.
بذلك، وجدت الإدارة نفسها في مأزق. تجاهلت عفرين لأنها غير قادرة على وقف الحرب فيها. وقريباً يأتي الاختبار في منبج الموجودة فيها قوات أميركية، وقد لا تقوى على وقف العملية التركية هناك، حسب التخوّفات الأميركية. وفي هذا السياق، لا تبدو تطمينات مكماستر كافية، فتركيا التي أمسكت زمام المبادرة رفعت من سقف شروطها في ظل غطاء روسي. وهي الآن تطالب "بإعادة بناء الثقة"، بتعبير وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو. ترجمة ذلك، بحسب قراءات أميركية، أن تحسم واشنطن أمرها وتتخلّى عن الورقة الكردية. وهذا ما أشعل الجدل في أوساط المعنيين بالشؤون الخارجية. فمنهم من سارع إلى التشديد على أهمية تعزيز العلاقة مع "الشريك الموثوق" أو "حليف الميدان"، ومنحه الأولوية تماماً كما فعل البنتاغون.
ويقول رئيس "مجلس العلاقات الخارجية"، ريتشارد هاس، إنه "على واشنطن أخلاقياً واستراتيجياً، العمل مع الأكراد في سورية. فالقطع مع أردوغان لا فكاك منه، إن لم يكن حول هذا الموضوع، فهو آتٍ في خلافات أخرى. وبالتالي على البنتاغون البدء في البحث عن بديل لقاعدة أنجرليك". كلام هاس ليس أوّل طرح أميركي من هذا النوع، ففي أواخر 2016 دعا الجنرال المتقاعد في القوات الجوية، شارلز وولد، إلى الإعداد "للاستغناء عن قاعدة أنجرليك الجوية الأميركية في تركيا"، مضيفاً "لقد حان الوقت للبحث عن بديل لهذه القاعدة، سواء في العراق أو كردستان... أو ربّما في الأردن أو قبرص". وهذا الموضوع جرت الإشارة إليه في أكثر من مناسبة، بل ثمّة من لا يستبعد، ولو بالتلميح، انفكاك تركيا في النهاية عن حلف شمال الأطلسي. لكنه خيار يحذر آخرون من عواقبه، "لأننا لا نقوى على خسارة تركيا التي تقتضي مصلحتنا أن تبقى في الحلف الأطلسي حتى لا تصبح حليفة لروسيا"، بحسب قول الأدميرال المتقاعد جيمس ستافريدس. ويشدد هذا الأخير على ضرورة طرح مخرج مقبول لتركيا "إذا كانت إدارة ترامب قادرة على الوقوف في وجه الأصوات المؤيدة لإسرائيل والأكراد"، خصوصاً أن "الجيش التركي متمسّك بالحلف الأطلسي".
مثل هذا المخرج مطروحة نماذج منه، ولو أن ترجمتها غير ميسورة، على الأقل في المدى القريب، ومنها "الضغط على حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لينأى بنفسه عن حزب العمال الكردي"، الذي يشكّل مصدر التوجّس التركي. ومنها أن تقدّم واشنطن ضمانات "بعدم تأييد أي انفصال كردي". وفي طرح آخر، أن يصار إلى العمل بمقايضة "يتخلّى بموجبها الأكراد عن الاستقلال، مقابل قبول تركي بحكم ذاتي كردي".
لكنّ هذه الصيغ لا تتناسب مع ظروف اللحظة الراهنة. في أحسن أحوالها هي وصفات بعيدة. ثمّ إن واشنطن لا يسعها النهوض بدور توفيقي، طالما أن "شريكها" هو "إرهابي" بنظر حليفها المهتزّة علاقتها معه، والمفتوحة على المجهول. وبعد اقتلاع "داعش"، لم تعد واشنطن قادرة على اللعب على التناقض بين "الحليف" و"الشريك"، وهو ما فاقم من ارتباك سياستها السورية. الآن عليها الفصل في الموقف أو حمل أحدهما على تبديل مقاربته، لكن ذلك لا يبدو وارداً، فالصراع بين تركيا والأكراد قديم وتاريخي وسيادي، والجمع بينهما يبدو أقرب إلى خلط الزيت بالماء.